هاني الزيتاني
لا زلت أذكر لحظة سماع اسمي للخروج من قبري الثاني، كان ذلك صباح الرابع عشر من شهر تشرين الثاني عام 2012. صعدت على درج طويل ولا يستر جسدي سوى سترة منسوجة من الصوف لونها أقرب إلى لون ورق شجرة الزيتون، كانت قد أهدتني إياها زوجتي قبل ليلة من دخول قبري الأول. إضافة إلى قطعة من القماش القطني تستر عورتي، كان لونها من لون ورق شجرة التين. لم تكن قدماي قادرتان على حمل جسمي النحيل، كانتا مخدرتين تمامًا بسبب عدم استعمالهما للمشي مدة مئتان وثلاثة وسبعين يومًا. في ذلك اليوم، لم أكن أعلم وجهتي. كنت أسير باتجاه المجهول معصوب العينين مقيدًا من يدي اليسرى بجنزير طويل مع عدة أشخاص لا أعرف عددهم، لكنني كنت أشعر بمصيري المشترك معهم.
أوصلتنا الحافلة -التي أدخلنا إليها رفسًا شخص غليظ الصوت كان يعتبر نفسه إلهًا علينا- إلى ساحة صغيرة، علمت لاحقًا أنها كانت المدخل إلى قبري الجديد في منطقة “القابون” على أطراف عاصمة بلادنا. قبل أن يدخلني أحد الأشخاص إلى قبري الثالث أزال العصبة عن عينيّ، للوهلة الأولى لم أستطع أن أفتحهما بسبب الوهج الشديد لضوء الشمس، وتمنيت حينها أن يعيد هذا الشخص إغماض عيني. كان من البديهي ألّا تستطيع عيناي احتمال هذا النور الذي ظهر فجأة أمامها، كانت حالتي حينها تشبه حالة ساكن الكهف المظلم الذي لا يريد الخروج منه خوفًا من نور العالم الخارجي. لكنها أيضًا كانت أمنيتي الوحيدة بعد تسعة أشهر من الظلام المعتم داخل قبرين من القبور السريّة لإدارة المخابرات الجوية في بلادنا.
حاولت النظر إلى الشمس مجددًا لكنني لم أستطع، أعدت المحاولة مرات ومرات، وفي كل مرة كانت أهدابي تختلج، وكانت الدموع تسيل من عينيّ، ليس من ألم الهراوات التي تضرب جسدي المنهك ولا من الكهرباء التي تصعقه، ولكن من هول ما كانت عيناي تبصرانه آنذاك. كنت أخشى هذا السطوع الباهر، في الوقت الذي كانت نفسي تتوق إليه وتبحث عنه. ومنذ ذلك الوقت تكوّنت لدي عادة النظر إلى الشمس مباشرة، خاصة بعد أن نُقلت إلى قبري الرابع، حيث كان يُسمح لي بالخروج ساعات محدودة باليوم للتنفس. كنت أبحث عن الشمس دائمًا، ليس فقط لألتمس الدفء منها أو أمتّع جسدي بأشعتها، بل وأيضًا لأتمعن في وضوحها.
اليوم، وبعد مضي أكثر من ستة أعوام على تلك الحادثة، أقف أمام نافذتي المطلة على مقبرة Grenelle”” في الحي الخامس عشر في باريس، متمعنًا في أكاليل الزهور التي تزين قبورًا بشواهد معروفة الأسماء تحت سماء مفتوحة الأفق. لكن وللأسف فإن سماء باريس اليوم تغطيها الغيوم، والقليل من الأمطار تطرق نافذة غرفتي.
قد يبدو غريبًا القول إنني بدأت أحب هذه الإطلالة، وآلف مشاهدة تلك القبور من شُرفة غرفتي في دار الصحفيين، لكنني قد أجد لعاطفتي الغريبة هذه ما يعزوها. ففي بلادنا البعيدة والتي سماها أسلافنا “الأرض السيدة ” لم أكن أرى السماء مفتوحة الأفق، بل مربعة الشكل ترسمها جدران عالية داخل سجن “عدرا” الذي دُفنت فيه جسدًا حيًا لأكثر من عامين. كنت أنظر من قبري داخل الجناح الثالث إلى سماء تمرّ بها الطائرات لا الغيوم، ولم يكن ليطرق نافذة زنزانتي التي حملت الرقم 303 رذاذ المطر، بل أصوات راجمات الصواريخ.
اليوم أصبحت لاجئًا، أقف أمام نافذتي لأنظر بحسرة إلى قبور مزينة بالورود، بينما أسمع من وطننا العزيز صراخ العديد من الأمهات اللواتي يطالبن بمعرفة أماكن دفن أولادهم والزوجات اللواتي يبحثن عن رُفاة أحبتهم ليُزيّنّ قبورهم بالورود، ولكن دون أن يجدن لمسعاهنّ مجيبًا أو أن تصغي لآلامهنّ آذان.
أيّ رثاء يعزو قلب مريم والدة “أيهم غزول” الصديق الجميل والطبيب الخدوم وهي مازالت تحلم منذ خمسة أعوام بقبر يضمّ جسد ولدها الحبيب، قبر تذهب إليه كلما فاض حنينها وازداد شوقها تحدثه حينًا وتعاتبه حينًا آخر على غيابه المبكر. خمسة أعوام ولا تزال مريم تبحث عن رُفاة ابنها الذي قتلته وأخفت جثمانه أيادي نظام استبدادي حكم بلادها ولا يزال منذ ثمانية وأربعين عامًا، وكل أملها أن تُقبّله قبلة الوداع الأخير وتسير في جنازته كما قريناتها من الأمهات المكلومات بأبنائهن.
هل صحيح ما يقال إن الروح تبقى هائمة تجوس بيننا وتعيش دواخلنا حتى تجد لجسدها قبرًا تسكن إليه؟ وهل ستبقى روحي قلقة معذبة حتى أجد لجسد أيهم مكانًا معلومًا أذهب إليه؟ أوليس بالدفن فقط يموت الانسان؟ … لم أكن لأستطيع أن أجيب تلك التساؤلات التي طرحتها عليّ عيون مريم عندما التقيتها لأول مرة قبل ثلاثة أعوام في بيروت بعد خروجي من السجن مباشرة، ثم إنني لست كمريم فأنا لم أولد أمًا تفيض وتتألم مثلها، وأنا لم أتعرف إلى أيهم إلا لأربعة أشهر فقط، ربما أربعة أعوام إذا ما قسناها بحجم الآلام المشتركة التي عشناها معًا داخل قبرين من القبور التي مررنا بها.
لقد تعرفت على أيهم مع نهاية العام 2011، فأصبحنا زميلين ناشطين في الدفاع عن حقوق الانسان وحريته في التعبير داخل بلدنا سوريا، لكن وخلال أقل من شهرين -وتحديدًا في السادس عشر من شهر شباط عام 2012- أصبحنا جسدين متلاصقين مع أجساد ستة من زملائنا الآخرين داخل قبر من قبور فرع التحقيق التابع للمخابرات الجوية، وكان يحمل اسم “الزنزانة 16”. لم تكن مساحة هذا القبر تزيد عن ثلاثة أمتار مربعة، قضينا فيه نحو شهر قبل أن نعلن اضرابًا عن الطعام احتجاجًا على أوضاعنا. استمر اضرابنا خمسة أيام، فكانت النتيجة أن تم نقلنا إلى قبر آخر أكثر سوءًا، هناك حيث كانت المحاكاة مع الموت ماثلة أمامنا ليل نهار. لم يكن من غاية لهذا القبر الجديد سوى التعذيب، التعذيب لمجرد التعذيب.
غرفة تحت الأرض تتبع للفرقة الرابعة في الجيش لا تتجاوز مساحتها ثلاثون مترًا مربعًا تخلو من كل شيء إلا من مئة شخص حي لا يجدون مكانًا للنوم مجتمعين، ويجتمعون على أمل واحد وهو الخروج من هذا القبر المظلم لرؤية الشمس وملامسة دفئها اليومي بدل ملامسة قضيبين متنافرين يتحكم بالتقائهما زر من عصا يضغط عليها السجان متى شاء ليشعل نورًا تحرق أجسادنا.
غادر أيهم قبرنا بعد شهر وألا ليته لم يغادرنا، فقد قُتل بعد سبعة أشهر من خروجه، بينما استمر وجودي في هذا القبر ثمانية أشهر قبل أن أنتقل إلى قبر ثالث ثم رابع فخامس وسادس.
أيّ رثاء آخر قد يعزو قلب نورا الصديقة والمحامية الرائعة وهي تنعي زوجها “باسل الصفدي”، الذي تزوجته وفقدته في نفس السجن، باسل مطور البرمجيات العبقري الذي صنفته قائمة “فورين بوليسي” التاسع عشر من بين أفضل مئة مفكر في العالم عام 2012، أعدمته ذات الأيادي التي تلوثت بدماء أيهم، ولم تسلم جثمانه إلى “عروس الثورة” نورا كما كنا ندعوها.
عامان في سجن عدرا وعصفورا الحب باسل ونورا يغردان لنا داخل شِباك قبرنا ألحان الأمل بالغد الحر، خرجتُ من قبر عدرا مع صديقين آخرين إلى قبر آخر داخل إدارة المخابرات العامة مساحته لا تتجاوز المترين المربعين، بينما قتل صيادو الأمل أحد العاشقين وحوّل أمل الآخر من أمل بالحرية إلى يأس بعالم أكثر عدلًا.
ليست حكايتا نورا ومريم هما الوحيدتان في بلادنا البعيدة، بل هي حكاية الآلاف من اللواتي فقدن أحبتهم وعجزن عن وداعهم، قوائم بالمئات أصدرها نظام الحكم في سوريا خلال هذا الشهر، ولايزال، لأسماء معتقلين قتلهم تحت التعذيب داخل سجونه. زملاء عدة في نداء الإنسانية فقدوا أصواتهم داخل تلك القبور، كنت أقرأ أسماءهم على مدى شهر في “قوائم الموت” التي يصدرها تباعًا نظامٌ قاتل بات متيقنًا أن لا سلطة ستعاقبه ولا شريعة دولية ستطلبه للمحاسبة.
اليوم أصبحت منفيًا، أقف أمام نافذة غرفتي تاركًا كل مساحتها لأنظر بحسد إلى سكان هذه القبور وأسمع عشرات الذكريات الحميمة من أحبتهم، فأي رثاء سأعزو به نفسي وأنا أحسد ميتًا؟ … سبعة أعوام أخيرة مضت من حياتي قضيت نصفها حيًا متنقلًا داخل القبور ونصفها الآخر لاجئًا متنقلًا بين البلاد، عاجزًا عن زيارة قبر أقرب أحبتي “والدي العزيز”، الذي رحل آملًا -وهو على فراش الموت -بلقاءٍ أخير لم يكن ليتحقق، وتاركًا لقلبي لوعة غيابي القسري عنه طوال تلك الأعوام.
اليوم كان استثناءً، فهي الذكرى السنوية الأولى لرحيل والدي، وكما أنني لم أستطع حضور مراسم تأبينه ووداعه، كذلك وجدت نفسي هذا الصباح هائمًا أسير في الشوارع دون وجهة، حتى وصلت إلى مقبرة “Père Lachaise” المشهورة في باريس. دخلت لزيارة ضريح “Balzac” لأشكره على روعة ما كتبه في “الكوميديا الإنسانية”، فقد كانت روايات بلزاك خير صديق لي في وحشة قبري داخل سجن “عدرا” المدني. تحدثت إلى سيد الواقعية مطولًا، لكن غصة انتابتني عندما عرجت على روايته الأروع ” الأب غوريو”.
مررت إلى ضريح “Auguste Comte” مؤسس علم الاجتماع قبل أن أغادر المقبرة، لأخبره أن الخضوع التام للسلطة والطاعة العمياء للسياسة الوضعية تدمّر المجتمع لا تحميه، وأن التفكير بوضع دين للإنسانية يجنبها النزاعات السياسية، إنما هو أقرب للخرافة.
فأي رثاء نعزو به الآن حال حقوق الانسان في بلادنا، عندما تحوّل حق دفن الميت إلى واحد من أهم الحقوق مناشدة؟ وأي عجز آلت إليه مؤسسات تعلم أن في بلادنا موتى لا قبور لهم وقبورًا لا شواهد لها وأن هنالك أحياءٌ يعيشون داخل قبور وأحياءٌ آخرون لا يستطيعون وداع موتاهم، ولا تحرك لكل ذلك ساكنًا؟!
في سوريا، أصبح ما يعيق رؤية الحقائق ليس سرّها أو غموضها، وإنما شدّة وضوحها. تمامًا كما الشمس، فلا غموض لكن العجز كل العجز في العيون التي لا ترى قرص الشمس الدائري اللامع الذي يقف خلف هذا النور القوي الساطع. قرص دائري الشكل مثبت في كبد السماء إطاره منسوج من خيوط تلمع كالذهب، يفوق في روعته بهاء القمر بحيث تذوب فيه النفس، لكنه مختبئ وراء هالة عظيمة من النور. قرص لا يُرى بالعين إلا بعد إمعان طويل.
نقلا عن عنب بلدي