مازالت ذاكرته متخمة بألوان ثياب أمه المزركشة، وبصور لقباب طينية عتيقة، فهو لا يستطيع أن يقدم فنه بمعزل عن المطرح الذي ولد فيه “جبل الحص” في ريف حلب الجنوبي، المنطقة الأكثر فقرا على المستوى المحلي.
يصور الفنان التشكيلي إبراهيم الحسون المولود في العام 1972، عبر أعماله الفنية المثقلة بالحزن، المأساة السورية بكل أبعادها، مستعينا بمخزون بصري كان شاهدا على دمار مدينته حلب، وينقلنا إلى معالم وطن كان دافئا بما فيه الكفاية “الحرب”.
قبل أن يتعرض مرسمه في حي الميدان الحلبي للدمار بفعل القصف من قبل طائرات النظام في العام 2012، كان الحسون منهمكا برسم لوحات فنية تؤرخ وجع اللحظة الراهنة، فترة أنجز حينها الكثير من الأعمال الفنية رغم حالة الترقب، وأنباء الغليان الشعبي التي كانت ترد من الريف الشمالي الحلبي، مع إعلان المعارضة لبدء معركة الفرقان في تموز/يوليو 2012، ودخول طلائع قوات الأخيرة لتلك المدينة، قُدر لحي الميدان أن يتحول إلى خط جبهة بين طرفي الصراع، ما نتج عنه دمار المرسم بما فيه من لوحات الحسون، لكن نزعة الفنان فيه لم تركن إلى الاستسلام، واختار أن يعيد بناء رصيد فني قوضته الحرب، وأن يتجه إلى مناطق أكثر أمنا في العمق الغربي للمدينة خاضعة لسيطرة النظام.
“قد يحتاج الجمال إلى كل هذا الألم، ولا يمكن أن أقبل بأي لوحة مترفة تطرح نفسها على أنها تمثل معاناة الإنسان”، ويضيف الحسون خريج الفنون الجميلة، والحاصل على دبلوم في مجال التصوير الزيتي: “تعثرت بالجثث، بعد أن نجوت من موت محتم، حين تكون أنت المصاب فلا أحد يستطيع التعبير عن مدى الألم الذي تعانيه، ولذلك نحن السوريون خير من يتحدث عن معاناتنا”.
لم يفضل الحسون الذي أقام حوالي 16 معرضا فرديا في الداخل السوري فضلا عن مشاركات بمعارض فنية عالمية في إسبانيا وهولندا، وألمانيا وبعض البلدان الخليجية، أن يبقى في الداخل أكثر، وقرر على إثرها التوجه إلى الأراضي التركية “هربا من خيارين لا ثالث لهما الموت أو الاعتقال”، كما يقول في حديثه لـ “عربي21”.
مع وصوله وأفراد عائلته الثلاثة إلى تركيا، كان قرار الهجرة إلى البلدان الأوروبية معتمدا لدى الحسون، وبالفعل مع وصوله قدم طلب اللجوء، إلا أن تعثر طلب اللجوء بفعل منع البلدان الأوروبية لطلبات اللجوء النظامية، جعل من خيار اللجوء بطرق غير شرعية الخيار الوحيد أمامه، وهو ما أدخله في حالة من الصراع والهلع يوضحها بالقول: “خوفي على حياة طفلي أنس وطفلتي لازور من الغرق في عرض البحر دفعاني إلى استبعاد فكرة اللجوء بالطرق غير الشرعية، وذلك مع استبعادي أيضا لفكرة سفري منفردا بانتظار لم الشمل”.
وبعد ذلك تنبه التشكيلي إلى أنه يمتلك سفيرا من نوع خاص، لوحات فنية يجب أن تجد له مكانا في “تركيا”، ومنها بدأ مشوار البحث إلى إزمير واسطنبول وأنقرة متعكزا على أعمال فنية تبوح بعذابات لا يمكن طمسها.
يقول الحسون: “لوحتي حصاني الوحيد الذي أدع له مهمة تقديمي للعالم، وكان ذلك لكن كل الفنانين الأتراك الذين قابلتهم التقطوا الحزن مباشرة، وأين هو الفرح؟”، يتابع: “غابت الضحكة عن السوريين، وما يرتسم على وجوههم ليست إلا ضحكات مصطنعة”.
“وجوه تحلم بوطن”، هو الاسم الذي اختاره الرسام لمعرضه الفني الأخير المنفرد في غالوري من الدرجة الممتازة في العاصمة التركية “أنقرة”، بعد أن شارك في عدة معارض فنية لها وزنها في الساحة الفنية التركية، يتحدث عنه: “هذه الوجوه هي وجوه كل السوريين، الذين يعانون من العذاب، وعدم الوضوح المستقبلي”، ولاقى هذا المعرض تفاعلا ملحوظا من الفنانين والمهتمين الأتراك بالشأن الفني، ليبادروا إلى اقتناء عدد من اللوحات “التعبيرية” المعروضة.
وعلى الرغم من كل الهواجس المستقبلية التي تسيطر على فكر الحسون، يرفض اللجوء إلى البلدان الأوروبية خوفا على ضياع هوية الأبناء، بعد أن وجد في البيئة التركية بيئة مشابهة لقرينتها السورية، التي يحلم بالعودة إليها.
عربي 21