يذهب الكثير من الخبراء والمختصين في الشأن الدولي إلى التكهّن بأن أحد أفرازات الحرب الروسية على أوكرانيا ستكون أفول ما يسمى بالأحادية القطبية، وأن روسيا ستقدّم نفسها في هذه الحرب كقطب ثان موازٍ للولايات المتحدة الأمريكية. فما مدى صحة هذه التوقعات؟ وماذا عن الصين التي هي الأخرى تحاول الدخول إلى حلبة القطبية؟ أم أن من المبكر الحديث عن تغير النظام الدولي؟
يبدو جليا أن العالم يمرّ بمرحلة تغيرات كبيرة، وعلى الرغم من أن الحرب الروسية على أوكرانيا تُعد من أبرز ملامحها، لكن هذه التغيرات لم تبدأ مع هذه الحرب بل سبقتها، ربما يمكن القول إن البداية كانت مع غزو واحتلال العراق عام 2003، آنذاك كان الحديث يدور عن أن فشل الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الحرب، لا بد من أن يقود إلى بداية النهاية للأحادية القطبية، وهو ما حدث فعلا على أرض الواقع. صحيح أن واشنطن حققت نصرا عسكريا في العراق، لكنها فشلت فشلا ذريعا في تحقيق نصر سياسي، وبالتالي كان ذلك إيذانا أوليا لبداية التغيرات، رافق هذا الفشل الصعود السريع للصين، التي حققت خلال ثلاثة عقود إنجازات صناعية وتقنية واقتصادية على عدة مستويات، بينما تطلب هذا التطور حوالي قرن من الزمان كي يحققه الغرب.
يضاف إلى كل ذلك عامل آخر وهو عودة روسيا بشكل فعال إلى الساحة الدولية، ووجودها بشكل واسع في عدد من الساحات، منها سوريا وليبيا وأماكن أخرى. بالتالي هذه كلها كانت تعكس التغيرات الجديدة، ورغم أن الغرب حاول مرارا وتكرارا إنكار هذه المتغيرات، لكن مؤخرا أصبح هذا الموضوع يتم تداوله من قبل بعض القيادات السياسية المهمة، مُعلنين عن أن هناك واقعا جديدا يجب الاعتراف به، لعل أبرز مثال هو رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الذي قال في يناير 2022، إن العالم الآن فيه ثلاثة أقطاب، وإن الولايات المتحدة لا تزال القطب الأقوى، ولكن هناك قطبين جديدين هما روسيا والصين.
مراحل التحول عادة تكون خطرة ومُخيفة، لأن الدول الكبرى تستعملها لإعادة إثبات قوتها، وفي خضم هذا التوجه فإن الدول الصغيرة هي التي تدفع الثمن
هنا لا بد من الإشارة إلى أن حروب نابليون عام 1790 أنتجت ما أُطلق عليه نظام فيينا، لكنه انتهى عام 1914 إبان الحرب العالمية الأولى، حيث نشأ نظام دولي جديد فيه تعددية قطبية، لكن الحرب العالمية الثانية أفرزت نظاما ثنائي القطبية متكونا من الولايات المتحدة وروسيا، انتهى إلى نظام أحادي القطبية بانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1989. هذا التحول في النظام الدولي كان هو الحالة الفريدة التي لم تحصل نتيجة حرب، وبالتالي يمكن القول بأن الحرب في أوكرانيا قد تأجلت لثلاثة عقود من عام 1989 إلى اليوم. فالرئيس الروسي بوتين يحاول اليوم استعادة بعض النفوذ الذي انهار مع الاتحاد السوفييتي آنذاك، كما يحاول المشاركة في بناء نظام دولي جديد قائم على تنسيق استراتيجي روسي ـ صيني، وإذا استمر هذا التنسيق ونضج وأصبح مؤسساتيا فإنه سيصبح قادرا على مواجهة الغرب. لكن يجب التأكيد على أن التنافس الآن ليس قائما فقط على القوة العسكرية، بل القوة التكنولوجية، الثروة الاقتصادية والقوة الناعمة، وهذه الأخيرة هي التي يفتقر إليها المحور الروسي ـ الصيني في مواجهة المحور الغربي، وعليه يبرز سؤال كبير في هذا المجال هو، هل بإمكان الصين وروسيا، بغض النظر عن مآلات ما سوف تنتهي إليه الحرب في أوكرانيا، صياغة رؤية جديدة لمنافسة المحور الغربي؟
إن تغيرات النظام الدولي عبر التاريخ الإنساني لم تكن ترتبط فقط بحروب عالمية، إنما أسهمت فيها أوبئة وتغيرات مناخية، فأطاحت بامبراطوريات وقوى عظمى على مرّ التاريخ. والنظام الدولي أحادي القطبية الذي تأسس في يناير 1992 لم يأتِ نتيجة حرب عالمية، إنما أتى بسبب تغيرات جيوسياسية، وما يجري اليوم هو ربما إعادة هيكلة النظام الدولي، أو الولوج إلى نظام دولي متعدد الأقطاب مرة أخرى، وفقا لما تسفر عنه نتائج حرب روسيا في أوكرانيا، لذلك نرى بوضوح أن الكثير من القوى الإقليمية الكبرى والمتوسطة حول العالم، هي بصدد إعادة تموضع جيوسياسي لكياناتها كي تتلائم مع المرحلة المقبلة، وإن علاقاتها مع بعضها بعضا كلها اليوم تدور في فلك نظرية التعقيد والتداخل والتشابك في العلاقات الدولية. إن التوصيف الحقيقي للواقع الراهن يشير إلى أن هنالك دولة كبرى تحاول أن تحافظ على مكانتها الأولى في النظام الكوني هي الولايات المتحدة، كما أن هناك دولة كبرى كانت كبيرة جدا، لكنها بدأت تشعر في الفترة الاخيرة بقدر من الاذلال من قبل الولايات المتحدة والغرب هي روسيا، التي بدأ الغرب يصفها بأنها مجرد محطة وقود زائد سلاح نووي، لذلك يحاول الرئيس الروسي أن يثبت أن روسيا هي أكثر من ذلك، وأنها قطب دولي قادر على المنافسة، أيضا هناك قوة صاعدة استطاعت تحقيق نوع من المعجزة بإخراج نحو 400 مليون إنسان صيني من تحت خط الفقر، وبناء نظام السوق، من دون تبني النظام السياسي الغربي، هذه القوة تحاول اليوم ترجمة قوتها الاقتصادية إلى قوة استراتيجية. كل هذه المؤشرات تؤكد أن هناك نظاما دوليا في مرحلة التحول، لكن يجب القول إن مراحل التحول عادة تكون خطرة ومُخيفة، لأن الدول الكبرى تستعملها لإعادة إثبات قوتها، وفي خضم هذا التوجه فإن الدول الصغيرة هي التي تدفع الثمن، فأما أن تكون جوائز ترضية لهذا الطرف الدولي أو ذاك، أو أن تصبح ساحات معارك للأطراف الدولية المتنافسة، وهذا هو حال أوكرانيا اليوم.
لقد كان غزو واحتلال العراق عام 2003 هو أبرز مثال على إحدى المراحل الخطرة التي بدأ النظام الدولي القائم يعانيها، تلك هي مرحلة انفلات القوة، أي استعمال القوة من دون وجود مبرر أو مسوّغ قانوني، ثم انتقل هذا الانفلات إلى الاخرين مدفوعا بالرغبة بفعل مشابه لما قامت به الدولة الأعظم، بمعنى أن الاخرين بدأوا بالتساؤل، لماذا يتصرف طرف دولي بخلاف القانون والشرعية الدولية ولا نتصرف مثله؟ فانتقلت هذه الرغبة إلى روسيا لاحقا فظهرت في الدونباس والقرم، كما انتقلت إلى الصين بقيامها بالتحرش بتايوان وبعض الجزر في بحر الصين، بل إن هذه الرغبة انتقلت حتى إلى دول ليست من الكبار على الصعيد الدولي، فوجدنا على سبيل المثال أن إيران قامت بالفعل نفسه في المحيط، وحاولت إثبات وجودها على حساب الآخرين، وكذلك فعلت تركيا أشياء شبيهة. إذن حتى الدول الأصغر من الدولة الكبرى بدأت تتشبه بالولايات المتحدة وتمارس الانفلات نفسه في القوة.
ما حصل مؤخرا في الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص التصويت على الملف الأوكراني، هو أحد أهم إرهاصات تشكيل نظام دولي جديد، فقد كانت هنالك كتلة دولية كبيرة صوتت ضد روسيا 141 دولة. في المقابل هنالك دول اعترضت وأخرى امتنعت عن التصويت، تمثل كتلة بشرية ونووية كبيرة جدا مثل الصين، الهند وباكستان.
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع