يثير نهج الإنكار الذي يتّبعه المسؤولون الروس، في التغطية على ما ترتكبه قواتهم من جرائم في سورية بحق المدنيين في مناطق سيطرة المعارضة، استهجان معظم المتابعين للوضع السوري وساسة بعض الدول المعنية به واستغرابهم، حيث ينكر المسؤولون الروس، باستمرار، استخدام مقاتلاتهم وقاذفاتهم القنابل العنقودية والفوسفورية والارتجاجية وسواها في قصف المرافق المدنية، من مستشفياتٍ ومدارس وأسواق في مختلف المدن والقرى السورية، وخصوصاً في المناطق الشرقية من مدينة حلب، على الرغم من مئات الصور والفيديوهات التي تظهر استخدامها هذا النوع من الأسلحة غير التقليدية والمحرّمة دولياً.
ووصل الإنكار الروسي الرسمي لما يرتكبونه من فظائع إلى حدّ إنكار وزير الخارجية الروسي استهداف المقاتلات الروسية قافلة المساعدات الإنسانية في قرية أورم الكبرى في سورية، مدعياً أن المعارضة قصفتها، أو أنها تعرّضت لحريق، واتهم الطرف الأميركي بفشل الهدنة، الأمر الذي دعا إلى وصف وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، نظيره الروسي، سيرغي لافروف، بأنه “كاذب”، و”يعيش في عالمٍ مواز”، أي أنه منفصل عن الواقع، الأمر الذي يذكّر بنهج الإنكار الذي يتبعه رأس النظام السوري، المنفصل بدوره عن الواقع، مع أن تقارير مصورة وموثوقة عديدة تظهر بشكلٍ، لا لبس فيه، ارتكابهم جرائم حرب في سورية.
ولا يصمد الإنكار الروسي أمام الوقائع على الأرض، حيث أظهر أحد التقارير المصوّرة التي بثتها قناة روسيا اليوم الرسمية، عملية “تذخير” طائرة سوخوي 34 روسية بقنابل “RBK-500” العنقودية والمحرّمة دولياً، لكن التقرير، حين أعيد بثه مرة ثانية، كان ناقصاً، وتمت إعادة “المونتاج” حذفت خلالها اللقطة التي تظهر فيها القنابل. وكانت مناسبة بث التقرير، في نسخته الأولى، زيارة وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، قاعدة حميميم في ريف اللاذقية، وظهر، في سياق التقرير، جندي روسي قرب طائرة سوخوي 35، وهي تحمل قنابل عنقودية، ثم تمّت عملية إعادة بث التقرير بعد حذف اللقطة التي تظهر فيها القنابل.
ومع بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، أنكر الروس تدخلهم، وادّعوا أن مقاتلاتهم تقوم بعمليات “محدودة” فقط، وتستهدف ضرب مواقع تنظيم داعش، في حين أن عشرات التقارير الدولية أظهرت أن 80% أو أكثر من غارات المقاتلات الروسية تستهدف مواقع الجيش السوري الحر، أو ما تعرف بالمعارضة المعتدلة، مقابل أقل من 20% من الغارات الروسية التي تستهدف مناطق وجود عناصر داعش، وهي تصيب المدنيين في تلك المناطق، وليس مواقع عناصر التنظيم. وعلى الرغم من كل الأدلة، تصرّ روسيا على المضي في الإنكار في كل وسائل إعلامها.
وأظهرت صور ومقاطع فيديو للعالم أجمع استهداف المقاتلات الروسية المدنيين السوريين، واستشهاد مئات الأطفال والنساء بسبب الصواريخ الروسية، إلا أن المتحدّثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، تدّعي، على الدوام، أن كل التقارير عن قتلى بين المدنيين السوريين منحازة وملفقة وخاطئة، ولا أساس لها من الصحة، في حين أن المسؤولين الآخرين، بمن فيهم الرئيس فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، يصرّان على أن معلومات تلك التقارير مغلوطة، وتستند إلى معطياتٍ كاذبة، وأن مقاتلاتهم لا ترش سوى الأرز والورود على المناطق التي تقصفها.
وتوظف روسيا آلة دعايتها الكاذبة، لتدعيم نهج الإنكار لما تقوم به في سورية، مثلما استخدمتها في الحرب على أوكرانيا، حسبما تملي عليها مصالح الإدارة الروسية، وتسيّرها امتداداً للاتحاد السوفييتي السابق، وعلى المنوال نفسه، من دون أي تغيير في نهجه الإعلامي.
وتثير تصريحات المسؤولين الروس بشأن دور مقاتلات بلادهم في سورية سخرية المتابعين للوضع في سورية، لأن أكاذيبهم باتت تحتاج إلى موسوعة غينيس خاصة بحكام روسيا الذين اعتمدوا نهج الإنكار، منذ نجاح الثورة التونسية في إسقاط رأس النظام الاستبدادي في بلادها، حين لجأوا إلى إنكار وجود حالات التشابه بين الأنظمة السياسية العربية والنظام التونسي، وسارع الساسة الروس إلى القول إن تونس ليست مصر وليست ليبيا وليست سورية، وحاولوا إنكار وجود مظاهر الاستبداد والطغيان والفساد ومواطنها في هذه البلدان، على الرغم من أنها تشكّل في كل هذه البلدان، ومن لفّ لفها، القاسم المشترك الأعظم بينها.
وبعد هروب زين العابدين بن علي، وتنحّي حسني مبارك، بقيت الآلة الإعلامية الروسية متمسكةً بالنظام الليبي حتى مقتل العقيد معمر القذافي، بل وشعر الساسة الروس أن الغرب خدعهم في ليبيا. أما حين وصلت الثورة إلى سورية فقد كان الإنكار، سياسة ونهجاً، العنوان الرئيس لخطاب جميع المسؤولين الروس ومسؤولي النظام السوري، وتوحّدت أجهزة ووسائل الإعلام في البلدين في التمسّك بنهج الإنكار، بل وحاولت، تسويق مقولة فارغة، مفادها بأن الثورات التي أطاحت نظامي بن علي وحسني مبارك لأنهما من نظم الاعتدال، وعقاباً على سياسات الإذعان والسير في ركب المخطّطات الإمبريالية والصهيونية في المنطقة.
وبالتالي، فإن نظم الممانعة والمقاومة عصية على الثورات الشعبية، لأنها نظم شعبية، وتقف في وجه الهجمات والمشاريع الأميركية والصهيونية.
واتخذ الإنكار أشكالاً متنوعة، منذ بداية الحراك الاحتجاجي السوري، جسّدتها ممارسات وسياسات تنفي وجود احتجاجاتٍ شعبيةٍ، سلمية الطابع، تطالب بالحرية والكرامة، وبتغيير النظام نحو دولة مدنيةٍ تعدديةٍ وديمقراطية. وتنفي كذلك حالات القتل والقمع والاعتقال والملاحقة. وراح ساسة النظامين، الروسي والسوري، يروّجون نظرية المؤامرة، بتصوير النظام هدفاً لمؤامرةٍ خارجية، واستتبع ذلك تصوير المحتجين بصورة المغرّر بهم، وتتلاعب بهم أيد خارجية، وعملاء لقوى لا تريد الخير لسورية، وأطلقوا عليهم تسميات مندسين ومهلوسين ومخدرين وصياصنة وعرعوريين وسلفيين وعصابات إجرامية وإرهابيين، وسوى ذلك.
وكان الميل إلى إنكار وجود أزمة سياسية في سورية واضحاً وعاماً، وسياسةً رسمية، بل طاول الإنكار وجود معارضة وطنية للنظام، ورميها بتهم الإرهاب والعمالة والخيانة والارتهان للخارج.
ويشير نهج الإنكار ليس إلى حالة متعددة المظاهر والمركبات فقط، بل إلى انتفاء السياسة ومصادرتها، واغتيال صوت العقل لصالح الجنوح إلى نهج الحسم العسكري الذي لا يعرف سوى التوغل في استخدام العنف المنفلت من عقاله، والذي حصد، ومازال يحصد، أرواح مئات آلاف السوريين، إلى جانب ملايين الجرحى والمفقودين، فضلاً عمّا يزيد عن تشريد وتهجير أكثر من نصف سكان سورية.
ويصدر نهج الإنكار عن عقلٍ جامد، شعبوي التفكير والأيديولوجيا، يسكنه هوس المؤامرة، ويرمي كل المشكلات والأزمات على الآخر، ممثلاً بالغرب الاستعماري، ودول النفط، ومعها القنوات الفضائية المغرضة التي تفبرك الأحداث في سورية، وتهوّل من حجم الكارثة. وهو عقل تآمري، يقسم الناس إلى قسمين، فسطاط معنا، وآخر ضدنا، ويبيح فعل أي شيء لإسكات الفسطاط الآخر وقمعه وتصفيته.
العربي الجديد – عمر كوش