جاءت نتائج قمة موسكو الخميس منطقية وطبيعية، مقارنة بالظروف الموضوعية، من تصعيد متبادل، ورفع سقوف المطالب، دون تخلي الطرفين التركي والروسي عن تحالفهما، وافتعال الأتراك أزمة اللاجئين على الحدود التركية مع أوروبا، مع تحرك دبلوماسي أميركي وأوروبي، ضغط باتجاه التوصل إلى الاتفاق الأخير، دون تورّط حلف شمال الأطلسي (الناتو) في دعم الطرف التركي.
تلخّصت نتائج القمة بثلاثة بنود، وهي وقف إطلاق النار في خطوط التماس في منطقة خفض التصعيد بإدلب، وإنشاء ممر أمني بعمق 12 كيلومترا، على جانبي الطريق الدولي حلب – اللاذقية “إم – 4″، وتسيير دوريات مشتركة روسية – تركية بين ترنبة غرب سراقب وعين حور في ريف جسر الشغور على الطريق السريع.
ومنذ قصف قوات النظام، بدعم وتخطيط روسي، للجنود الأتراك، ومقتل العشرات منهم، في الـ27 من فبراير الماضي، صعّد الأتراك من تصريحاتهم ضدّ النظام، وهدّدوا بعمل عسكري بعد انتهاء مهلة الأيام المتبقية من فبراير.
واتسم التصعيد التركي بسمة استعراضية؛ سواء ما تعلق بمطالبة النظام بالعودة إلى ما وراء خطوط سوتشي تحت التهديد بعمل عسكري، أو ما تعلق بالعمل العسكري التركي نفسه داخل الأراضي السورية، واستعراض هجوم طائرات الدرون، وإسقاط ثلاث طائرات للنظام، واستهداف تجمعات جنوده، مع استعادة بعض المناطق من قبل المعارضة المدعومة من أنقرة، وتناوب السيطرة عليها.
وساهمت المعارضة العسكرية والسياسية المدعومة من أنقرة، بدورها في تضخيم أثر التصعيد التركي، وربطه بأهداف الثورة السورية التي تهدف إلى إسقاط النظام السوري؛ فيما تبيّن بنود الاتفاق، والذي لم يحضره أيّ من الطرفين السوريين، ولم توقَّع منه نسخة باللغة العربية، أن السوريين هم الخاسر الأكبر في هذا الاتفاق، الذي مثل مصالح الدولتين الموقّعتين عليه، دون حديث حتى عن ضمان عودة النازحين إلى منازلهم، أو إقامة منطقة آمنة تخصهم، عدا عن ذكرٍ لضرورة “عدم استهداف المدنيين والبنى التحتية تحت أيّ ذريعة”، دون ورود آليات لتحقيق ذلك، خاصة أن الاتّفاق يتضمّن حديثاً عن استئناف محاربة الإرهابيين، ما يعني أن تنفيذه محفوف بالمخاطر.
وفيما تفاءل معارضون باستعادة الفصائل المدعومة من تركيا السيطرة على سراقب، على الطريق الدولي “إم – 5″، والتي ظلت تحت سيطرتهم حتى عشية الاتفاق، وتوجّب عليهم الانسحاب وتركها للقوات الروسية، تطبيقاً للاتفاق، حيث فُتِح الطريق الدولي دمشق – حلب “إم – 5” فوراً؛ وهو ما أنجز من بنود الاتفاق، إضافة إلى وقف إطلاق النار، فيما تنتظر مهمة إنشاء الممر الأمني وتسيير الدوريات المشتركة مهلة انقضاء أسبوع للتنسيق حولها، ما يعني فتح الطريق الدولي الثاني “إم – 4”.
والجزء الذي لم يطبق بعد من الاتفاق، الممر الأمني وتسيير الدوريات، هو الأصعب، وتنفيذه يقع على عاتق الطرف التركي، وهو ما يبدو أنه تكرار لبنود سوتشي في سبتمبر 2018، والتي لطالما تحجّج الروس بتقاعس الأتراك عن تنفيذها، لكن مع انزياح في المنطقة الآمنة، التي كانت في اتفاق سوتشي بعرض 20 كيلومتراً، في ريفي حماه الشمالي وإدلب الجنوبي والجنوبي الشرقي، ومع إلزام موسكو الأتراك مهلة أسبوع، عليهم خلالها إبعاد الفصائل عن الممرّ الأمني، ومنها فصائل متشددة، وضمان عدم حصول انتهاكات، تحت طائلة حق دمشق في الرد على الاستفزازات، وحق تركيا في الرد على هجمات النظام.
حجم التصعيد العسكري التركي، والتضخيم الإعلامي له، يوحي بأن الأتراك قدّموا الكثير من التنازلات ضمن الاتفاق، خاصة إذا ما أنجزوا مهمة فتح الطريق الدولي من حلب إلى اللاذقية، والتي يبدو أنها تقدم مجاناً للروس والنظام لاستثماره، بعد عجز الأخيرين، طيلة الأشهر الماضية، عن تحقيق أيّ إنجازات عسكرية على محور ريف اللاذقية.
الواقع أن الأتراك، الذين عرّضوا جيشهم، وهو ثاني أقوى الجيوش في حلف الناتو، لضربات موجعة داخل الأراضي السورية، كانوا محدودي القدرة على الحفاظ على الإنجازات؛ لذلك لم تتجاوز معاركهم دور الاستعراض، ولم يتمكنوا من تجاوز الحدود التي يسمح الروس بها، حيث تم قصف القوات التركية حين اقتربت من جبل الزاوية، على حدود التماس الأخيرة، من قبل قوات النظام والروس.
وهم صعّدوا بداية من سقف مطالبهم لجس نبض واشنطن وحلف الناتو، حول مدى تقديمهم الدعم، مستغلين خلاف الأخيرين مع الروس، واستيائهم من دورٍ كبير للميليشيات الإيرانية وحزب الله في معارك النظام في إدلب، عدا عن استخدام الرئيس التركي ورقة السماح للآلاف من اللاجئين باجتياز الحدود إلى أوروبا، ومنع الأخيرة دخولهم، والذين يبدو أنهم سيتحولون إلى ملف سياسي وإنساني للمتاجرة به بين الأطراف اللاعبة في الملف السوري.
وإذا كان التصعيد والتضخيم للحملة التركية ضمن الأراضي السورية هو جزء من بروباغندا داخلية تخص الرئيس التركي وحزبه، إلا أنه حصل بالنهاية على أقصى ما كان يريد الحصول عليه، وهو منطقة نفوذ حدودية له، شمال الطريق الدولي، عرضها يزيد قليلاً عن 20 كيلومتراً، والتي يبدو أنه سيتم تجميع المعارضة فيها كجيب جديد يمكن تسميته “درع الربيع” يضاف إلى جيوب “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”؛ وهو ما كان ليتم لولا مغامرة أردوغان بإقحام الجيش التركي في المعارك السورية.
ورغم أن الاتفاق يعطي الأتراك شرعية التواجد في منطقة “درع الربيع”، فإن أنقرة لا تأمن جانب موسكو، خاصة أن في نص الاتفاق ثغرات تمكّنها من خرقه، وأن تركيا تعلم بالنوايا الروسية حول السيطرة على كل الأراضي السورية، فالأتراك دفعوا بكل أوراقهم للحصول على هكذا اتفاق، إذ يبدو أن واشنطن تباركه وتعترف به، وكانت تدفع لإنجازه.
فرض بوتين على أردوغان الذهاب إلى موسكو لعقد الاتفاق، ورفض عقد قمة رباعية تركية روسية ألمانية فرنسية؛ وفي الوقت ذاته، حصل الأتراك على اعترافات من واشنطن على لسان المبعوث جيمس جيفري بحق تركيا بتأمين حدودها، خلال مؤتمر دولي عقدوه في إسطنبول من أجل إدلب.
وما زال الأميركيون وحلف الناتو مستاءين من صفقة “إس – 400” بين روسيا وتركيا، لكنهم يريدون التهدئة في سوريا، ووافقوا على بعض المكاسب التركية، رغم رفضهم لأيّ دور تركي أو إيراني في سوريا، وهم يتحدثون عن إمكانية إقامة منطقة حظر طيران في إدلب، بقرار دولي.
لذلك يبدو أن الموقف الأميركي، غير الداعم، فعلياً لتركيا، بقدر ما هو يدعم إنهاء ملف الحرب في سوريا، هو الضامن الحقيقي لإمكانية تنفيذ الاتفاق وصموده؛ وهو ما سيعتبر إنجازاً لروسيا وواشنطن أيضاً، يستبق جلوسهما على طاولة مفاوضات الحل السياسي في سوريا.
نقلا عن صحيفة العرب