كما نَصَحَ سابقاً السفير الأمريكي جيمس جيفري، حين كتب عن نائب الرئيس جو بايدن، إلى كيري في 2 أيار قائلاً: “نظراً للرّفض الفطري المتأصّل في أوباما اتّجاه العراق، والفوضى المزمنة لسياسة الإدارة في أماكن أخرى، فإن البيت الأبيض محظوظٌ، لوجود بايدن كعاقل راشد في الإدارة، ولكن كما يعلم أي والد، فمن الصعب جدّاً القيام بترتيب تلك الفوضى التي يخلّفها الأطفال”.
وكما كان لبايدن أخطاء في ملف العراق، فإن لكيري حصّته أيضاً هذه الأيام، فوزير الخارجية الأمريكي يسير في مسار ضيق حددته سوزان رايس وبن رودس ودنيس ماكدونو، فيما يحاول كيري فعل أي شيء بيديه الخاويتين، فقد اقترح بهدوء إنشاء منطقة حظر طيران لإنقاذ الأرواح في حلب، ولكن وعلى الفور اصطدم ذلك الاقتراح بالرّفض العام من البيت الأبيض، حيث أن سوزان رايس عازمة على تسليم النصر في سوريا للأسد وبوتين، وبالفعل، سيكون من الصعب جداً ترتيب “فوضى الأطفال”.
هذا وصرّحت واشنطن بوست في 2 أيار أن الولايات المتحدة وروسيا يدرسون السبل الممكنة لفصل القوات المتناحرة في سوريا، ومن ضمنها احتمال إنشاء مناطق آمنة لمقاتلي المعارضة، ومع ذلك وفي نفس اليوم صرح السكرتير الصحفي للبيت الأبيض جوش إرنست بأن “الرئيس الأمريكي لا يعتقد في هذه المرحلة، بأن المناطق الآمنة هي بديل عملي لما يحدث في الوقت الراهن في سوريا”.
وبالفعل، القضية الحقيقية هي الرئيس أوباما، حيث إنه يعاني من الصعوبة في إخفاء كراهيّته إزاء سوريّا والعراق والشرق الأوسط، فالمنطقة لم تتساهل مع الرئيس الأمريكي حيث وضعته وإدارته تحت اختبارات لا هوادة فيها، وكشفت كل عيوب الإدارة وفقاعاتها التي تُرك كيري ليتنقل من خلالها، وفي كل منعطف طريق كان على أوباما إيجاد متهمين غيره على الساحة، فتارة كان يتهم العرب والأتراك، وتارة يضع اللوم على الأوروبيين والروس، أي شخص وأي كيان إلا بيته الأبي !.
إذ لا يختفي تاريخ من التوجّهات العقائدية في لحظة ما، من دون ترك آثارها الخاصّة، بل إن آثارها قد أثبتت دوماً وجود تأثيرها الضار على التفكير الاستراتيجي والسياسي، وإن طريقة تجنّب ذلك التّأثير تكمن في إخضاع أزمة معقّدة كتلك، لجدال ومناقشة نشِطة، ولكن النّقاش في البيت الأبيض عادةً ما يكون دائراً ضمن دائرة ضيّقة من الأيديولوجيات، فلامبالاة الرئيس أوباما تجاه الشرق الأوسط متبادلة، ولكن النتيجة المؤلمة لهذه الفوضى “السخيفة” من سياسات الإدارة في المنطقة، تظهر اليوم في مأساة حلب، حيث المئات من المدنيين يموتون في كل يوم.
لن يكون هنالك من منطقة آمنة في سوريا، بل عوضاً عن ذلك، ستقوم الولايات المتحدة وروسيا بتشكيل لجنة مراقبة مشتركة لوقف إطلاق النار في جنيف، فهل لهذا أن يرسي قواعد عمليات عسكرية مشتركة لفرض وقف إطلاق النار؟
على أي حال، من الواضح الآن بأنه قد تم إعطاء الدور للروس للقيام بما يشاؤون، فبدلاً من الذهاب إلى دمشق، التي من المفترض بأنها الجهة التي تسبب المأساة الإنسانية المستمرة في حلب، أعلن مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا في مؤتمر له مع كيري في جنيف 2 أيار بأنه سوف يتوجه إلى روسيا عوضاً عن ذلك.
وفي حين صرّح كيري للصحفيين، بعد يوم من اجتماعات طارئة في جنيف قائلاً “إن لم يتقيّد الأسد بتلك الاتفاقات، ستكون هنالك عواقب واضحة، وإن أحداً منهم لربّما يكون المدمّر التام لوقف إطلاق النار ومن ثمّ العودة ثانية إلى الحرب”، إلا أن هذه التهديدات تعيد ذكريات سيئة حول خط أوباما الأحمر، ولذلك من الأفضل لكيري أن يتجنّب مثل تلك الوعود الكاذبة، طالما أنها غير مدعومة من البيت الأبيض.
نحن نعلم بأنّ “العنوان” الذي يجب فيه الذهاب إليه لمناقشة مأساة حلب هو الكرملين ! كما نعلم أيضاً بأن كُلّاً من دي ميستورا وكيري “يأملان” بأن روسيا ستقوم بالضغط على الأسد لوقف “رياضة صيد البشر”، ولكن آمالهم تلك مبنيّة على ماذا؟ ماذا الذي يدفع أي منهما للاعتقاد بأن روسيا ستقوم بفعل أي شيء لإجبار حليفها “السفّاح” على التخلّي عن إدمانه للدم؟ لأسباب
إنسانية؟ ومع بوتين؟ منذ متى؟
ولكن اللّوم الحقيقي ينبغي له أن يوضع هنا: على واشنطن، حيث يتوجّب على الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن يشعر حقّاً بالعار من نفسه ومن فريقه، الذي كان بعض منهم يتبجحون متفاخرين بمبدأ responsibility to protect أو “مسؤولية الحماية”، تلك الأحرف الثلاثيةR2P التي يجب أن لا يتشدق بها السياسيون إن لم تطبق! في الوقت الذي تُقصف فيه المستشفيات، ويُقتل الأطفال، وتُهدم مدن بكاملها لتصبح على مستوى الأرض.
لكنّ الكوميديا السوداء تتجلّى في إعلان دمشق بنفس اليوم الذي كان قد صرّح فيه دي ميستورا بأنه سيقوم بالتوجّه إلى موسكو، بأنّ القوات الجوية الروسية ستقوم باستئناف عملياتها العسكرية في جميع أنحاء سوريا إذا انتهى وقف إطلاق النار رسمياً، ووفقاً لمسؤولين حكوميين في سوريا، بحسب ما نقلته الأخبار في 1 أيار “أكّدت وزارة الدفاع الروسيّة استمرار حملتها الجوية في أنحاء البلاد وذلك بعد انتهاء وقف إطلاق النار” في حين رفضت وزارة الدفاع الروسية نفي أو تأكيد هذا التقرير.
إن هذه هي الحلقة المفرغة ذاتها، تعيد نفسها مراراً وتكراراً، اتفاق يليه خرق الأسد له، يليه إنكار بوتين أن تكون قوّاته قد شجّعت تلك الخروقات، يتبعه أمل الولايات المتحدة بشيء ما، أو تحذير أحدٍ ما، ومن ثمّ العودة إلى لافروف للعمل على ترتيبات جديدة والتي سرعان ما يتمّ خرقها من قبل الأسد وميليشياته الإيرانية، وبدء الكَرّة تلك في الحلقة المفرغة نفسها، من جديد ولمرّة أخرى.
أليس من الواضح بأن هنالك شيءٌ خاطئٌ في هذا النّهج المتّبع؟ ألا نعلم بأنّ الأسد سفاح؟ بينما نعرف الآن من خلال التحقيق الذي أجرته سكاي نيوز، بأنّ الأسد قام في الواقع بتسويةٍ مع تنظيم “داعش”، بما في ذلك، التمثيليّةُ الكاملةُ في تسليمه لمدينة تدمر لجماعةٍ إرهابيةٍ متطرفة ومن ثمّ “استردادها” لجعله يظهر بمظهر منقذ التراث الإنساني، وللتغطية على هوايته المحبّبة في قتل شعبه؟
إن استراتيجية روسيا-الأسد-إيران، واضحةٌ وضوح الشمس: استعادة السيطرة على “سوريا المفيدة” ويقصد بها هنا، “غرب البلاد” تقريباً، ومن ثمّ قبول نشر “قوات حفظ السلام” الدولي، وذلك على الخط الفاصل ما بين شرق وغرب سوريا، ونحن على يقين كُلِّي بأنّ مسألة “قوات حفظ السلام” سيتم طرحها في وقت ما، حيث تكون فيه حلب، إدلب، وريف حماة وحمص، والغوطة وأكبر قدر ممكن من المناطق المحيطة بدمشق، مسيطر عليها بإحكام من قِبَلِ قوات الأسد وحلفائه من الميليشيات الإيرانية والروسية.
إن الخطوط العامة لهذه الاستراتيجية، ستتضمن التخلي عن شرق سوريا للمعارضة وأنصارها، مع مُهمّة إلحاق الهزيمة بتنظيم “داعش” وفي اللحظة المناسبة، ستستأنف المحادثات لتوحيد البلاد، أو بعبارة أخرى، للجمع ما بين الأسد القوي والمستريح في الغرب، والمعارضة في شرق البلاد وذلك بعد استخدامهم في تخليص العالم من معضلة تنظيم “داعش”، ولكنّ ردّ المعارضة السوريّة، وفقاً للجدال الراهن على أرض الواقع، هو التركيز بشكل رئيسي على قتل العسكريين الروس النّشطين في سوريا.
وليس هنالك من دلائل موثوقة تشير إلى أنّ إدارة أوباما تعارض سيناريو التقسيم الذي يؤمل له أن يكون غير حقيقي، ولكن لماذا قتل المدنيين وتدمير المستشفيات؟ لماذا على نِفاقِ الإدارة الأمريكيّة أن يُحطِّم كل الأرقام القياسية على حساب الأطفال والعائلات؟
نعم، يمكن للولايات المتحدة إيقاف هذه المجزرة، القليل من منظومات الدفاع الجوي المحمولة في حلب وما حولها، ستمنع طائرات الأسد من إلقاء براميلها المتفجّرة على رؤوسهم، المنطقة الآمنة بوسعها المساعدة، تقديم المساعدات تحت حماية القوات الجوية الأمريكية ممكنة، كما من الممكن استكشاف العديد والكثير من السبل المتاحة، ولكن وعوضاً عن ذلك، عندما يهرب المدنيّون في حلب من ذلك الموت المُحدِقِ بهم إلى تركيا، بطريقٍ يَحفُّهُ الموتُ والمخاطرُ، وإن حالفهم الحظّ في الوصول إليها بأمان، وأرادوا اللجوء إلى أوروبا، فإنهم يواجهون الرّفض الكامل، أين من الممكن أن يذهب أولئك الناس؟ إنّ الطريق الوحيد المتاح والمفتوح أمامهم، هو ذلك الطريق المؤدّي إلى العالم الآخر.
إنه لعارٌ علينا كُلّنا !!!
Middle East Briefing – ترجمة بلدي نيوز