ككل يوم تخرج وفاء من غرفتها قبل أن تشرق الشمس وقد سبقها زوجها بسام بقليل، لا أقصد بلفظة غرفتها أنها غرفة نومها بل الغرفة الوحيدة التي تعيش فيها مع زوجها وأبنائها الثلاثة، هارون وسمر ومرح الصغيرة التي لم تبلغ من العمر شهوراً، الأب والأم اعتادا مجبرين الخروج كاللصوص في هدوء وصمت من الغرفة العُلوية التي استأجراها من العم أبي سهيل العجوز ذي السبعين عاماً قضاها في الربا والقمار والتجارة غير المشروعة..
فما سبب هذا الخروج الباكر؟! أمّا الأب فيخرج لعلّه يجد أحد ضالتين: إما عملاً يسد به رمق العائلة، وإما غرفة أخرى بعدما هدده أبو سهيل بطرده؛ لا لشيء يستحق الطرد بل لأنّ أطفاله الثلاثة تلهو تصرخ تصخب وخاصة مرح ترغو وتزبد طوال الليل جوعا وألما؛ فلا الأم بمرضعة ولا تملك ثمن الحليب، حتى الأغطية غير كافية لتتوزع على الأفراد الخمسة بعدما احترقت إحداها بمدفأة صنعها بسام من صفيحة زيت وجدها في الطريق، وقودها بعض الأحذية المهترئة التي كان البحث عنها منوطاً بهارون ذي السنين التسع التي قضى أكثر أوقاتها في المرحاض، بسبب البرد والمغص شتاءً أو الإمساك صيفا، إذ كان مجموع ما قضاه في المرحاض يزيد على كل ما قضاه على سور المدرسة يراقب الطلاب، وسور النادي يراقب اللاعبين، والأرصفة يراقب الحلوى، والحدائق يراقب بائع البوشار والبذور المقمرة.
هاون لا تجد بين يده سوى لدائن وأحذية مهترئة علّها تدفئ أخته مرح وتتركه ينام ساعة أو ساعتين قبل أن تناط به مهمة أخرى أمرّ وأشدّ، إنّها رعاية أختيه في غياب الأم والأب، الباحثين عن عمل، طعام، غرفة جديدة، فقد ضاق أبو سهيل العجوز بهما أكثر من غرفته القذرة الرطبة الممتلئة بالأوجاع والآلام والشحوب، والمحشوّة بالأجساد المتلاصقة لعائلة نازحة من ريف اللاذقية.
ما من فكرة تطرأ على فكر وفاء أو بسام، بل كانا يعملان على خط واحد، لا تغيير في استراتيجيتهما: فقط الخروج باكراً والعودة ليلاً وقد أنهكهما التعب، وقد ندر أن عادت الأكف الأربعة ممتلئة، حتى الثلاثة، حتى الكف الواحدة قلّما تعود ممتلئة.
هارون استطاع التفكير بطريقة جديدة ومبتكرة، لم يسبقه إليها أحد، على أقل تقدير حلّ نصف المشكلة التي تعاني منها الأسرة هي الطرد من الغرفة، فالمالك يرغب براحة باله يريد مستأجراً وحيداً أو زوجين بلا أولاد بلا صخب ولا بكاء طوال الليل.. عادت الأم مساءً قبل صعودها الدرجات الأولى شعرت بخطاً متثاقلة تدل على هيئة صاحبها وهويته، إنه شريكها في الحظ العاثر والقدر والغرفة والهموم، الصمت المطبق، والانكسار الأبدي، لاحت منه نظرة، تسمّرت وفاء ريثما يصل إليها، صعدا صفر اليدين، العيون تختلس النظرات لا الأكف تحمل شيئاً ولا الجيوب متكوّرة، ولا الفم ينطق.
على الباب ورقة عليها خربشات بالكاد تفهم، هارون تعلّم الكتابة على يد القدر كتب: (هكذا لن تتركا الغرفة بعد الآن) دهشت الأم كيف وجد هارون حلاً على صغر سنّه كيف أصبح رجلاً ولم تخطر مثل فكرته على بال أبيه عاثر الحظ مخيّب الآمال، تجول في نفسيهما في ثانية أو أقل أفكارٌ شتى، فربما هي فكرة ما تنقذنا من شبح التشرد المتكرر.. فتحا الباب، الطفلتان على وسادة واحدة مقطوعتي الأنفاس برباط حريري لحذاء قديم بَخِلَ كلٌّ من بسام وهارون ووفاء عن رمي الحذاء في المدفأة وهذا الرباط الحريري المتين معلّق به، فحتماً سيكون له نفع ما يوماً، أما هارون فقد شنق نفسه بالرباط الثاني، لم تكلّف العملية سوى رباط زوج من الأحذية حتى اختفى شبح التشرد من أمام عيون الأسرة المصغّرة حالياً.
دفن الأفراد الثلاثة في بستان؛ فالمقبرة لها رسومها وتكاليفها، عاد بسام ووفاء إلى الغرفة، استقبلهما العم أبو سهيل وقد نزع قبعته من على رأسه حداداً على الأطفال الثلاثة، هنأهم – أقصد عزاهم- بالقرب من الدرج عندما دخلا غرفتهما التي أصبحت تتسع للأجساد الباقية وتبقى الزوايا ممتلئة بعقم الروح والمخاط المختلط بالدموع ونار الموقد الملتهب بين الحنايا، دلف العم أبو سهيل وأخبرهما أن بعد اليوم لا خوف من التشرد، فهو لا يمانع من استئجار الغرفة لصالحهما فقد أصبحا عائلة مثالية، بلا ضجيج أو صخب.. هما الآن ميتان ليلاً هاربان نهاراً.
علاء العبدالله – مجلة الحدث-العدد 4