من الحياة اليومية لمواطن سوري
أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)،
وهي قصة حدثت معي شخصياً وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان. المكان مدينة دمشق والزمان حوالي الساعة الخامسة من مساء يوم الخميس، قبل عدة أيام من عيد رأس السنة الميلادية الذي سيعلن نهاية عام 1980 وبداية 1981. كنت أعمل حينها بصفة مدنية في مؤسسة تنفيذ الانشاءات العسكرية (متاع) كمهندس متدرب حيث خرجت ذلك المساء بسيارة المؤسسة ذات اللوحة العسكرسة لمقابلة بعض الأصدقاء دون أن أعلم ماذا ينتظرني. كانت وجهتي شارع الفردوس، فقدت سيارتي من بيتنا في منطقة الجسر الأبيض عبر مشفى الطلياني، ولكن وأثناء عبوري لاشارة المرور التي تفصل ساحة عرنوس عن شارع الحمرا، كانت تلك الاشارة تتغير من الأخضر إلى البرتقالي، فما أن قطعتها حتى سمعت صافرة عرفت فوراً أنها لدورية المرور. ركنت السيارة على اليمين وانتظرت الشرطي المدني حتى وصل فبادرني بالكلام زاجراً: ألم تر أن الاشارة كانت حمراء حين قطعتها؟ أنتم العسكريون من تخلقون الفوضى في البلد وتتسببون بالحوادث! أجبته بهدوء: أولاً أنا مدني ولست عسكرياً، وثانياً الاشارة كانت برتقالية وليست حمراء حين قطعتها، وسرعتي لم تسمح لي بالتوقف المفاجئ وإلا لتسببت بحادث مع السيارات التي خلفي. كنت واثقاً مما أقوله ولم أكن مستعداً لدفع (المعلوم) للشرطي كما هو متعارف عليه في هكذا ظروف. نظر الشرطي إلي وفهم بأني لن أدفع، فقال لي بأنه سيأخذ بطاقتي ويذهب إلى سيارة الضابط الواقفة خلفنا ويسأله ماذا يريد أن يفعل. غاب الرجل عدة دقائق ثم عاد وقال لي بأن الضابط قرر بأنه لن يخالفني هذه المرة ولكن هناك روتيناً يجب إتباعه حيث علي الذهاب أولاً إلى فرع المرور في ساحة (باب مصلى) ليصار هناك إلى كتابة تقرير بالحادث وتوقيع تعهد من قبلي بالانتباه للاشارة في المستقبل، يتم بعدها إخلاء سبيلي، وقال بأنه سيركب بجانبي حتى نصل إلى هناك. لم تعجبني القصة ولكن لم يكن هناك ماأستطيع فعله، أي لم أكن في وضعية الرفض، فهويتي كانت معهم والرجل كان قد أصبح على المقعد بجانبي. وصلنا إلى فرع المرور حوالي الساعة السادسة حيث تم إدخالي مباشرة إلى قاعة كبيرة ليس فيها كراسي أو مقاعد ولاحتى سجاد، بالرغم من أنها كانت تغص بعشرات الأشخاص الذين كانوا يفترشون الأرض وبعضهم كانوا ملتفين بالبطانيات من شدة البرد. قبل تركي في القاعة، طلب مني الشرطي الانتظار لحين كتابة التقرير وقال بأنهم سينادون باسمي لتوقيع التعهد ومن ثم للسماح لي بالمغادرة. سرعان مااقترب بعض الشبان مبتسمين وقال لي أحدهم من باب الفضول: من أي إشارة مرور أتوا بك؟ فهمت منهم بعدها بأن هناك تعليمات جديدة من إدارة المرور باحضار الناس، مخالفين وغير مخالفين، لملء هذه القاعة كل يوم وذلك للبرهان بأنهم يسهرون على تطبيق القانون وضبط المخالفين، وأضافوا بأن كل من يأتوا به إلى هذه القاعة هو بمثابة المعتقل ولايتم إخلاء سبيله إلا في الصباح. وهنا اقترح أحدهم بأن شرطة المرور، وكونها جهة مدنية، لايحق لها اعتقالي هنا كوني أعمل في مؤسسة عسكرية، وبالتالي عليهم أن يخلوا سبيلي مباشرة. أعجبتني الفكرة ولم أجد مايمنع تجريبها، فقرعت على باب القاعة وطلبت التكلم مع أحد أفراد الشرطة، ولما فتحوا الباب، قلت للعنصر بأني أطلب إطلاقي مباشرة لأني أعمل لصالح جهة عسكرية. أخذني الرجل جانباً وقال لي: نصيحة أخ، تحمل البقاء هنا عندنا حتى الصباح ولاتفتح سيرة العسكر. كنت في ذلك الوقت في حالة نفسية سيئة للغاية كوني اكتشفت بأنهم، وبهدف أن يحضروني إلى هنا، كذبوا علي بقصة كتابة التقرير وتوقيع التعهد وإخلاء السبيل، فقلت له بأنني سأطلب الشرطة العسكرية للتدخل مالم يطلقوا سراحي مباشرة! فقال الرجل: لك ماتشاء، سنطلب لك الشرطة العسكرية وسنرى ماذا ستفيدك. كانت الساعة قد قاربت السابعة حين وصلت دورية الشرطة العسكرية إلى فرع المرور، وتم استدعائي إلى خارج القاعة حيث قال لي أحد عناصر تلك الدورية بأنهم سيخلون سبيلي من فرع المرور ولكن (الروتين) يتطلب مرافقتي لهم إلى فرع الشرطة العسكرية في القابون ليصار إلى تحرير ضبط بالموضوع وإخلاء سبيلي من هناك. شعرت حينها بأني قد زدت الأمور سوءاً ولكن ماعاد يمكن التراجع، حيث تم اصطحابي بسيارتي ورفقة أحد العناصر إلى هناك. وما أن وصلنا حتى تم اقتيادي إلى غرفة التحقيق حيث قالوا لي بأن أحد الجامعيين المجندين سيأخذ أقوالي قبل الافراج عني. وفعلاً استقبلني محامي من دمشق يؤدي الخدمة الالزامية، فهدأ أعصابي وصب لي كأساً من الشاي وقال لي: (احكيلنا استاذ، شو جابك لهون؟). وكوننا جامعيين، فقد رفعنا الكلفة مباشرة وتحدثنا عن أيام الدراسة ووجدنا الكثير من العوامل المشتركة بيننا. وقد قال لي الشاب وبصورة غير مباشرة بأنه وكونه (شامي)، وهذه تهمة بحد ذاتها في سورية الأسد، وأيضاً كونه مجرد مجند، فليس هناك الكثير مما يستطيع أن يساعدني به، وقال لي بأنهم لن يفرجوا عني كما قالوا، وإنما سيقومون بزجي في إحدى الزنزانات حتى صباح السبت (باعتبار غداً الجمعة عطلة رسمية) حيث سأذهب بسيارة الشحن ذات القضبان الحديدية إلى المحكمة العسكرية مع عشرات المساجين من المجرمين وأيضاً ممن هربوا من قطعاتهم أو شكلوا (فرار) من الخدمة وتم القبض عليهم ليقرر القاضي العسكري ماهو حكم كل منهم. ثم قال لي بأنه يستطيع مساعدتي بالسماح لي باستعمال هاتف مكتبه للاتصال بمن يمكنه إخراجي من هذه (المصيبة). كنت أستمع إليه ولاأصدق مايقول ولا مايمكن أن يحصل فيما إذا لم أتمكن الخروج من هنا الآن قبل أن أمضي يوماً وليلتين أصعد بعدها إلى سيارة الشحن الزيل الشهيرة بلقب (سيارة اللحمة) وأساق إلى المحكمة العسكرية. اتصلت من هاتف المكتب بأحد أقاربي الذي يعمل في نفس المؤسسة (متاع) وشرحت له الوضع باختصار وطلبت منه الاتصال بقريب آخر كان برتبة لواء في الجيش ويشغل منصباً رفيعاً في الدولة ويمكنه إخراجي من هنا بسهولة. كانت الساعة قد قاربت على الثامنة حين اعتذر مني المحقق وقال بأنه لن يتمكن من إبقائي في مكتبه أكثر من ذلك خوفاً من المسؤولية، خاصة وأن عليه مغادرة الفرع، ثم نادى على أحد الحراس وطلب منه تسليمي للسجن. لم أصدق مايجري حولي، وماعدت أعرف هل هو حقيقة أم كابوس مرعب، وخاصة أني كنت قبل ثلاث ساعات فقط أقود سيارتي في شارع الحمرا للاجتماع مع أصدقائي، وها أنا في طريقي إلى سجن يضم مجرمين ولصوص وهاربين من الخدمة، لالشئ ولكن من أجل لون إشارة المرور: هل كانت حمراء أم برتقالية! فتح باب حديدي عملاق تم إغلاقه بسرعة بعد مروري عبره ليطلب مني المجند الذي فتح الباب أن أتبعه. قادني إلى مصعد ليس له جدران، وكان أشبه بسقالة كهربائية منها لمصعد، وضغط على الزر فبدأنا بالهبوط ببطء إلى الأقبية تحت الأرض. أثناء مرورنا عبر القبو الأول، شاهدت العشرات من السجناء شبه العراة، حيث كانوا جميعاً بالسليب فقط، وحيث كان عناصر الشرطة يضربون بعضهم بالسياط والأحزمة، في حين كان البعض الآخر من العناصر يصبون عليهم الماء البارد من التنكات، وطبعاً صوت الصراخ كان الأسوأ في ذلك المشهد الذي بدا وكأنه هارب من ملحمة (الجحيم) لدانتي. وحين مررنا بالقبو الثاني، كان المشهد شبه مطابق لسابقه مع اختلاف الوجوه، مما يجعلك تسأل نفسك: كيف يمكن للانسان أن يصل إلى هذا القدر من التوحش وفقدان الرحمة في تعامله مع أخيه الانسان بغض النظر عن الأسباب؟ **
* بقلم: طريف يوسف آغا
كاتب وشاعر عربي سوري مغترب عضو رابطة كتاب الثورة السورية