لم يكن يظنّ نفسه أنّه سيصبح المعيل الرئيسي لأسرته, خاصّة وأنّه كان كما يقول أبواه “طائشاً لا يعرف للحياة أيّ قيمة”.
“عمّار” شاب سوري من ريف حلب الشمالي في الـ 24 من عمره, مرتب وأنيق بثياب فضفاضة, فهو شاب متديّن, وشعر أسود كعتمة الليل ووجه ظهر بياضه جلياً بالمقارنة بشعره ولحيته الخفيفة التي أطلقها.
معرفتي بعمّار ليست جديدة فقد جمعتنا نفس الهموم في مخيم شاسع يضمّ عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين الذين فرّوا من رحى الحرب, إن لم يكن خوفاً على أنفسهم, فخوفاً على أبنائهم أو ذويهم, إلّا أنّه غادره سعياً منه في إيجاد عمل يؤمّن به رزقه.
كنت أسأل أباه عنه فيقول: “والله يا ابني عتبك على يلي عم يسمع صوته أو يشوفه, الله يهديه أحسن شي, ما فلح بشي بهالحياة” فلم يكن أبا عمّار راضياً عن تصرّفات ابنه قط, وبعدها خرجنا جميعاً من ذلك المكان الذي جمع آلامنا حقبة من الزمن وذهب كلّ منّا يبحث عن حياة جديدة يستقرّ فيها نوعاً ما.
تفاجأت اليوم برؤية عمّار في المستشفى, ويتجمهر حوله جمع من الأشخاص يطلبون منه المجيء معهم ليساعدهم عند الطبيب في قسم إسعاف الأطفال, كانت زيارتي لذلك القسم بغرض تركيب السيروم والقيام ببعض تحاليل الدم والبول لطفلتي.
“عمار !!!!! ألست عمّار ابن أبي يوسف !!! كيف حالك !!! وماذا تفعل هنا ؟؟؟” سألته بعد أن فرغ من الازدحام حوله والدهشة تتملكني.
فأجاب بابتسامة عريضة: “أهلاااااا أستاذ محمد, إي والله أنا عمّار, كيف حالك, شو أخبارك!!!! والله يا أستاذ عم اشتغل مترجم في قسم إسعاف الأطفال, صرلي تقريباً 6 أشهر بهالشغل”
“جميل جداً يا عمّار, لابدّ أنّ أباك راضٍ الآن عنك وعن عملك” فأجاب بضحكة عالية “أي والله رضيان وكلمة فاشل ما عاد يقولها بنوب يا أستاذ هههه”
“هات حدّثني ماذا فعلت وأين انتهت بكم السبل”
فاستطرد عمّار في حديثه بعد أن أنهى عمله مع إحدى النساء التي كان يساعدها بالترجمة لها عند الطبيب “متل ما بتعرف يا أستاذ أني ما قدرت كمّل دراسة وما فلحت فيها, فطلعت على أنقرة واشتغلت بمقهى فيها وبعدين اشتغلت بمطعم وبعدها انتقلت لاسطنبول واشتغلت بفندق ضخم, وبهالأماكن يلي اشتغلت فيها تعلمت أحكي تركي كتير منيح, وبعدها تقدمت لمسابقة المترجمين بالمستشفيات ونجحت بالمسابقة, وعينوني هون بالمستشفى من حوالي 6 شهور”
غادر عمّار لبرهة كي يترجم لأحد الأشخاص, بينما كنت وابنتي ننتظر أن ينتهي كيس السيروم وصدور نتائج التحاليل التي قمنا بها, ثمّ عاد ليكمل حديثه قائلاً: “استأجرنا بيت أنا وأهلي هون بالأيوبية قريب من المشفى والحمد لله أمورنا كويسة وعن قريب بإذن الله رح أخطب بنت كمان بتشتغل مترجمة هون بقسم الـ KBB (أنف أذن حنجرة)”
“ما شاء الله, وأسأل الله أن يوفّقك لكلّ خير”
فليس بالضّرورة أن يقتصر نجاح المرء على نجاحه في دراسته فحسب, فالنجاح أن لا نيأس وأن نخلق فرصاً للنجاح بجدّنا وعملنا واجتهادنا.
محمد المعري
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع