أخذوا هويّته على باب الجامعة، ثمّ تابع طريقه، ليعترضه بعد برهة صوت أحدهم:
” براء السّرّاج.. نعم؟ .. نريدك 5 دقائق”، يقول براء: ” قلبي صار بين قدمَي.. هذا هو الاعتقال”.
براء السّراج، طالب في كليّة الهندسة الكهربائية، وكثيرا ما كانت تتعرض تلك الكلية إلى مداهماتٍ، وحملة اعتقالاتٍ بحق الطلاب؛ لأن فيها الكثير من الفلسطينيين والشيوعيين، ومتى ما شوهد فيها خط طويل من الطلاب “طابور” فهذا يعني أنّ هناك اعتقال.
يومها شاهد السرّاج خطّا طويلا من الطلّاب فقال في نفسه: “مسكين هذا الذي سيُعْتَقَل”. لم يكن يعلم أنّه سيساق إلى زنزانة تحجب عنه نور الشمس، ودفء الحياة مدة 12 عاما.
اعتُقل براء على باب الجامعة، بقي في غرفة حراسها حوالي 3 ساعات، أخذوه إلى فرع العدوي، مكث فيه قرابة ساعة، قيّدوه، وطلبوا منه أن يستلقي في المقعد الخلفي. فسأل أحدهم إلى أين سيأخذونه فجاء الجواب: “إلى جهنم الحمرا”. ثمّ ساقوه إلى فرع الأمن العسكري (المخابرات)في حماة.
يقع هذا الفرع جنوب حماة على يمين الطريق الواصل بين حمص وحماة، له سور عالٍ وباب كبير، وبمجرد أن يُفتح ويدخل فيه المعتقل ستفتح عليه نيران غضب المحققين في داخله.
المسافة الواصلة بين هذا الباب ومقر فرع التحقيق طويلةٌ جدا. تسير السيارة وتسير، وقلبك يخفق ريثما تصل إلى المقر، طوابق تحت الأرض، وأخرى فوقها، وزنزاناتٌ تفوح منها رائحة التعذيب والدماء.
تتعالى أصواتُ الصراخ في الطوابق السُّفلية، ولا تكاد تميز بين صوتٍ وآخر، يختلط الأنيُن مع الخوف. تغيب البسمةُ تماما، ويشحبُ الوجه، وتتسمّرُ الكلماتُ على الشفاه، إلى أنْ تُخرِجها أساليبُ التحقيق والتعذيب عُنوةً من الأفواه التي تتلعثم ولا تدري ما تقول، مصيرٌ مجهول ينتظر كل من يدخل هذا الفرع، فالداخل مفقود والخارج مولود.
يصل براء إلى الفرع، يوقفونه طويلا ثم يقتادونه إلى زنزانة. شعور الخوف والبرد لم يفارقه، عذّبوه في الدولاب بحجة أنه غير متعاون مع المحقّق. الدماء تسيل من قدميه، كان يشعر أنْ لا أحد قادر على أن يحميه من هؤلاء الجلادين.
أرادوا منه في التحقيق معرفة الطلاب الذين ينتمون إلى الإخوان، وإلا سيستمر التعذيب، فأعطاهم أسماء لأشخاص معتقلين عندهم. ففي فرع حماة يشعر المعتقل بأن الذين في الفرع يشعرون أنهم مجرمون، فبناء على نوع الصّراخ يعرف المعتقلون نوعَ التعذيب.
يقول براء:
” الصّفعة الأولى كافية لتعطي فكرة عمّا سيأتي.. الصّفعة الأولى عندما أخرجني من غرفة التحقيق لأعيد كتابة قصّة حياتي.. كانت كافية لتدير رأسي دورة كاملة”.
أحد أصحاب السجن قال له: “يجب أن تغفر للناس؛ لأنه ما منا من أحد إلا وأتى بأناس.. نحن سلاسل”.
هذه الجملة كانت نوعا من إلقاء الضوء على الواقع بالنسبة لبراء، فالناس أتت إلى السجن نتيجة التعذيب، والاعترافات تمت نتيجة التعذيب أيضا.
سِيْقَ براء إلى دمشق، ومن ثمّ إلى سجن تدمر ليقضي سنين طويلة في زنزاناته، ذاق فيها الويلات من الجوع والتعذيب والإذلال، والشحّ في كل شيء، ولاسيما شحّ الماء الذي وجده أكبر معاناة؛ لأنه يتعلق بالطهارة والنظافة.
اعتقلوا براء ليكون ممثلا عن أسرته في السجن، فمن كل عائلة يأخذون معتقلا ليكون رادعا للبقية، كانوا يجبرونهم في السجن على الخروج إلى ساحاتها ليردّدوا بذلٍّ شعار: “بتحبّوا مين.. حافظ”، ويعيدون ويكررون حتى يرتوي السّجّانون.
اليوم يمرُّ ببطء شديد بين جدران تلك الزنزانات الموحشة، ولا سيّما في المهجع، ولكن السنوات تمرّ سريعا.
يقول براء:
” في كل يوم أصحو فيه أشعر بقشعريرة.. أنظر من حولي فأرى السجناء.. فأدرك أنّي مازلت قابعا فيه”.
يخيّم الصمت عليه قليلا ثم يستذكر أيام الإعدام في السجن التي تزلزل الكيان:
” لن أنسى منظر الشمس الباهتة على حيطان الباحة الصفراء.. النّاس في الدّاخل شبه مخدّرة.. لا أحد له رغبة في أن يتكلم مع الآخر”. يتكرر هذا المشهد في كلّ يوم إعدام. وربّما كان القتل المتعمّد بالقفز على بطن المعتقل حتى الموت هو أكثر ماعلق في ذاكرته في ذاك السجن المظلم.
بقي براء في السجن 12 عاما بتهمة إخوان مسلمين، وهو حموي، من مواليد دمشق 1963. أُخلي سبيله، وأول ما أراد الذهاب إليه هو الجامعة، كلّ شيء تبدّل، الأشجار الصغيرة أصبحت كبيرة على أوتستراد المزّة، البيت خالٍ من الأهل والخلّان، جميعهم غادر إلى أمريكا، الغبار يملأ المكان شاهدا على الزّمن، لم يتمالك نفسه، وانفجر في البكاء.
بعد سنة من إخلاء سبيله، ودّع السّراج دمشق الوداع الأخير، وغادرها إلى الولايات المتّحدة، درس فيها العلوم الطبيعية، وحصل على درجة الدكتوراه في المناعة من جامعة هارفرد. ومن ثم اختص مدة 5 سنوات في جامعة “نورث ويسترن” في زراعة القلب. فتحوّل بهذا العزم والإصرار وحب العلم من سجينٍ سياسي في أقبية سجن تدمر في نظام الأسد المجرم إلى أستاذ المناعة في كبرى جامعات أمريكا.
قصة خبرية/ ظلال عبّود