أقسى مايمكن أن يدمر المرء هو خروجه من خلف قضبان السجن ليسكن زنزانة الروح القاحلة مُكبلا بأغلال الحيرة, يبحث عن استكانة روحه المتعبة وقلبه المكلوم في هذا الحيز الضيق الآفاق, فلا مكان لقلب أراد السكينة والحب, وعقل أراد الحرية, في ظروفٍ قاهرة تفرض واقعا مناقضا لما نتمنى.
“أحببتها رغم بعد المسافات بيننا.. تحديت العقبات.. أكملت تحصيلي العلمي لتقبل الزواج بي.. تزوجنا بعد معاناةٍ طويلة وتحدٍّ للظروف”.
عبارةٌ بدأ بها مصطفى، الشاب العشريني، بعد أن أطفأ سيجارته بفنجان القهوة الذي ارتشف منه آخر رشفةٍ مع آخر سحبة نفَس من سيجارته، ليطلق شهيقاً مليئاً بالدخان والقهر.
يكمل مصطفى قصته بمشاعر مختلطة بين حنين وقسوة، بين ألم ونقمة، فهو الآن وبعد خروجه من المعتقل، وحيد يعيش مع ذكرياته الممزوجة بين الحب والخذلان، يقول مصطفى “خرجت من سجون قسد بعد اعتقالٍ دام ثلاث سنوات، كنت قد قضيتها بألم وحرمانٍ لا نديم لي سوى ذكريات وأحلامي بلقاء زوجتي وطفلي الذي كنت أنتظره عندما دخلت السجن”.
لم يكن يدري مصطفى أن زوجته وطفله الذي كانت زوجته حاملا به عندما سُجن، قد نزحت إلى تركيا، وتقطن مع أهلها في مدينة أسطنبول منذ اعتقاله عام 2017، سارع لمكالمتها وقلبه شغف لرؤيتها ورؤية طفليهما الذي طالما حلم به في زنزانته الصغيرة.
كان لقاءا هاتفيا باردا، لم يشعر مصطفى بلهفة الحب التي كانت تبادله إياها زوجته قبل أن تفرقهما ظروف حربٍ لم ترحمهما، لتطلب منه بعد دقائق من حديثهما عبور تركيا والمجيء إليها في أسطنبول إن أرادها وابنهما.
لم يكن مصطفى حينها متوازن الفكر بعد، فلم يمر ساعات على خروجه من السجن، ولم يكن يدري إلى أي حالٍ وصلت ظروف الحرب، من تقسيمات للمناطق وتغيرات ميدانية على الخارطة العسكرية.
بعد مرور عدة أيامٍ فهم مصطفى واقع الحال، لم يكن راغباً ترك البلاد والرحيل حيث زوجته وطفله، لكنه قرر دخول تركيا لعله يستطيع إقناع زوجته بالعودة معه حين يلتقيان ويتجدد توهج الحب بينهما من جديد.
حاول مصطفى عبور الحدود إلى تركيا أكثر من سبع عشرة مرة، وفشل رغم تعرضه للضرب والخطر في أكثر من مرة، لكن أكثر ماكان يؤلمه ارتيابه من مشاعر زوجته التي لم تعد كما عهدها، أصبحت قاسية باردة المشاعر.
إلى أن كانت الصدمة القاضية، عندما واجهته برغبتها بالانفصال عنه فهو لم يعد يعني لها شيئاً بعد كل تلك المدة، وأنها نادمة على زواجها منه فهي منحدرة من عائلة لا تشبهه طبقيا واجتماعياً حسب وصفها.
لم يصدق مصطفى ماسمع، هل تعي حقاً زوجته ماقالت، أغلق هاتفه وجلس وحيداً يبكي واقعاً قاسياً، حب حياته الذي سعى بكل حماس حتى حصل عليه، ظلّ في زنزانته المظلمة يحلم بيوم لقائه بحبيبته، التي خطفتها الحرب منه بعد أشهرٍ من زواجهما، لتخبره بعد كل تلك التضحيات بأنه لم يعد يعني لها شيئا.
ماكان من مصطفى إلا أن أرسل لها ورقة طلاقها دون أي محاولة لإقناعها بالعدول عن قرارها، فهو كما يقول: “رغم كل حبي وتعلقي فيها إلا أنها سقطت من قلبي.. ماعاد بدي ياها.. رح أبقى هون ببلدي.. منتظر الأيام تجمعني بابني..”
ينهي مصطفى حديثه بابتسامة باردة تخفي وراءها أثقال من التنهيدات والآهات قائلاً: “كل سنوات اعتقالي واللي قضيته من تعذيب وتجويع وبرد وحرمان ماآلمني بقدر خنجر الغدر اللي انطعنت فيه من اللي كانوا أقرب من روحي الي”
قصة خبرية/ إيمان هاشم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع