عكف فوكس حلب في تحقيقات سابقة على تشريح أساليب النظام السوري للسطو على عقارات السوريين، بدا فيها النظام نشطاً في استغلال فرصته الذهبية بظل وجود ملايين الغائبين، من نازحين ولاجئين، مستغلاً ذلك إلى جانب استسهال توجيه تهم الإرهاب أو ممارسته التخويف على الباقين في مناطق سيطرته، ممن لا حول ولا قوة لهم في مواجهته.
وإن كانت يد النظام وعينه على عقارات السوريين في المدن، فإن الأرياف باتت مسرحاً أيضا للسطو تتكفل ماكينة النظام الأمنية والتشريعية به. تتمثل في قوننة نهب الأراضي في “جريمة حرب” جديدة تُضاف إلى سجله.
نستعرض في هذا التحقيق مصير آلاف الهكتارات، وكيف يحوّل النظام أصحابها على أقل تقدير إلى مستأجرين لأملاكهم، وفي العمق لا يتوانى النظام عن إيجاد الأسباب والذرائع لنزع الملكية مستقبلاً.
منذ بدء قواته باستعادة المناطق التي كانت خارجة عن سيطرتها قبل التدخل العسكري الروسي المباشر إلى جانبها عام 2015، أطلق النظام يد المتنفذين من الضباط والمسؤولين وزعماء ميليشيات الشبيحة والدفاع المحلي للسطو على أملاك السوريين، عقارات أكانت أم أراض زراعية، بطرائق تعسفية مختلفة، المدخل الرئيس لمعظمها يكون على أساس تهم سياسية موجهة بالدرجة الأولى للغائبين عن أملاكهم.
وحسب الوقائع والوثائق والشهادات، فقد سعت سلطات النظام إلى قوننة عمليات السطو من خلال حزم قوانين وتشريعات كان لافتاً الزخم في إصدارها في مرحلة ما بعد عام 2011، كما ورد في مادة سابقة بعنوان “أرقام وإحصائيات.. شهية النظام المفتوحة على قوانين العقارات في سوريا“.
الإجراءات السالبة لأملاك السوريين، بشكل مباشر أو غير مباشر، جميعها تؤدي وفق مختصين إلى تحقيق الهدف الرئيس المتمثل في “نزع الملكية”، وفق ذرائع و وسائل مختلفة عُرض جانب منها في مادة سابقة بعنوان هكذا يخسر السوريين أملاكهم: الحرب على الأملاك في دائرة ضوء تحقيقات متتالية ينشرها فوكس حلب، وفي العموم فإن مسارات تلك الإجراءات في المحصلة مخالفة للقانون والدستور والاتفاقيات الدولية.
ومن هذه الانتهاكات، ما تعرضت له أراض في المناطق الممتدة من ريف حماة الشمالي والشرقي، مروراً بأرياف إدلب وحلب وليس انتهاء بدير الزور، وكان لافتاً اتساع وتشابه الإجراءات المتخذة وخصوصاً من ناحية تشكيل لجان تنظم بداية تأجير الأراضي واستثمارها، بما يشتمل ذلك على فعل جرمي لا يتغير في إطار التعدي على الممتلكات، وفق المادتين 768 و 770 من القانون المدني السوري اللتين تضمنان للمالك حق الاستعمال والاستغلال والتصرف بأملاكه ما لم يقيد ذلك نص قانوني آخر، ناهيك عن أن هذا التعدّي يأتي تمهيداً لانتزاعها وفق ما حذر منه حقوقيون، باعتبار أن وضع اليد على العقار يشكل المرحلة الأولى للتحول إلى صفة حائز ونفي عنه صفة الغصب من خلال التدرج في تشريع الحيازة.
تتجلى هذه الانتهاكات في إطارها العام بالاستيلاء على الأراضي والحقول التي هُجّر أصحابها بسبب المعارك أو سيطرة قوات النظام عليها ومنح أشخاص من النظام حق استثمار هذه الأملاك بطريقة تعسفية، إذ مُنع أكثر المالكين من حق الاستفادة من أملاكهم، على الرغم من محاولة قسم منهم استئناف العمل بها، سواء بشكل مباشر أو عن طريق عمال مستأجرين.
سطو تدريجي ممنهج
البداية في الاستيلاء المنظم والواسع على الأراضي الزراعية للمهجرين واستثمارها كانت من ريفي حلب الشرقي والجنوبي، المنطقة التي كان النظام قد تمكن من استعادة السيطرة على أجزاء منها مبكراً منذ نهاية العام 2014، حيث عمد قادة الميليشيات المحلية والشبيحة إلى وضع يدهم على أملاك الغائبين، كل في منطقة نفوذه ولمدة ست سنوات، قبل أن تقرر حكومة النظام عام 2020 حصر هذه الأملاك وتأجيرها عن طريق مزادات علنية، في أولى خطوات شرعنة وضع اليد على تلك الأملاك.
لم يتمكن الحاج خالد السالم، وهو اسم مستعار، من إنجاز وكالة لشقيقه الذي عاد إلى القرية بعيد سيطرة النظام على الجزء الأعلى من ريف حلب الجنوبي نهاية العام 2014، الأمر الذي جعل أرضه الزراعية بيد خالد حسين علوش المرعي، الملقب بـ “الحاج باقر” قائد ميليشيا لواء الباقر، التابعة لإيران والمهيمنة على القرية ومحيطها، طيلة سبع سنوات.
السالم هو واحد من مئات آلاف السوريين المتواجدين في تركيا، ممن أجبرتهم التعقيدات التي فرضها النظام على استخراج الأوراق الثبوتية من القنصليات، وبينها الوكالات بطبيعة الحال، على الرضوخ في النهاية للقرارات التي طبقت على الأراضي الزراعية التي يوجد أصحابها في الخارج.
وكانت سلطات النظام السوري قد زرعت أولى الألغام في مسار الحصول على الوكالة المطلوبة من خلال شرط الحصول على موافقة أمنية، دون تبيان شروطها وآلياتها، ليترك طالب الوكالة أسيراً لمزاج المؤسسات الأمنية وتقييمها للغائب وموقفه السياسي في مخالفة سافرة لضمان حقوق الملكية المنصوص عليها في القوانين المحلية والدولية.
دفع شقيق الحاج خالد السالم مبلغ 25 ألف ليرة سورية مقابل كل هكتار ليتمكن من زراعة الأرض للمرة الأولى هذا الموسم، بعد مشاركته في المزاد الذي خصص لأراضي القرية التي لا يوجد أصحابها في مناطق سيطرة النظام، بغض النظر عما إذا كانوا معارضين أم لا.
مبلغ ليس كبيراً بالمقارنة مع العائد السنوي الذي خسره كل عام بسبب عدم تمكنه من زراعة الأرض، وهو راض بذلك، على الأقل لأن أرضه لن تبقى مهملة ما يجعلها عديمة الفائدة بمرور الوقت، وأيضاً لأنه تمكن من استعادتها، حتى وإن كان بعد سنوات، على عكس جيران له وأقرباء يعتقد أنهم لن يستطيعوا زراعة أراضيهم بسبب مشاركتهم في الثورة، الأمر الذي جعل النظام يقرر منع حتى أقربائهم من استئجار أو إدارة أو استثمار أملاكهم التي خلفوها وراءهم.
يروي الحاج خالد لـ “فوكس حلب” أنه مع اجتياح قوات النظام والميليشيات التي تقاتل معها المنطقة كانت الأراضي مزروعة بشكل كامل، وأن قادة مجموعات الشبيحة استولوا على المحصول في ذلك العام، بعد أن منعوا أقارب المهجرين من الحصاد، معلنين وضع يدهم بشكل كامل على الأراضي التي غادرها أصحابها.
ويقول: التهم كانت جاهزة ومعروفة، فإما أن الملاك إرهابيون أو داعمون للإرهاب، أو في الحد الأدنى معارضون للنظام. لكن بسبب اتساع مساحة الأراضي وعدم توفر اليد العاملة التي تكفي لتغطيتها، فإن قسماً منها بقي دون استثمار أو عناية، ما أدى إلى تضررها بشكل كبير، إلا أنه وبعد أن جرب النظام في مناطق أخرى فكرة تأجير هذه الأراضي أو وضعها في الاستثمار خلال العامين الماضيين، بدأ بنقل هذه التجربة إلى ريف حلب في العام الحالي.
الآليات والتنفيذ
ويكشف الحاج خالد السالم لفوكس حلب الآلية والإجراءات التي تتم من خلالها عملية تأجير الأراضي في ريف حلب الجنوبي، مشيراً أن “الأرض الزراعية فرض عليها مبلغ أجار سنوي يتفاوت حسب نظام السقاية الذي تعتمد عليه المحاصيل، وهذا المبلغ يُدفع كما علمنا لصندوق خاص تشرف عليه لجان شكلت لإدارة هذا الملف، أما حقول وبساتين الأشجار المثمرة فقد طبق عليها نظام الاستثمار، الذي هو نظام الضمان السنوي بالمعنى المتعارف عليه لدينا”.
ولذلك شكل النظام لجاناً فنية من ممثلين عن مجلس المحافظة واتحاد الفلاحين وشعب حزب البعث، بالإضافة إلى مخاتير القرى، من أجل إحصاء الأراضي الزراعية المهجورة وتحديد ملكيتها ومساحتها، لتقدير بدل الإيجار أو مبلغ الاستثمار الذي سيتم دفعه مقابل كل هكتار من هذه الأراضي، على أن تكون الأفضلية لأقارب الملاك بالنسبة للأشخاص غير المطلوبين أمنياً، أما المنشقين أو المعارضين فمنحت أراضيهم لقادة مجموعات الشبيحة أو لضباط في الجيش والأمن من أجل استثمارها.
هذه الإجراءات المؤدية إلى استثمار الأراضي من جانب أقارب الملاك، ودفعهم مبالغ إلى صندوق لا يُعرف تماماً مصير الأموال المدفوعة له، أو حتى منح الأراضي لقادة مجموعات الشبيحة وضباط الأمن، نتيجة عمل لجان تضم ممثلين عن حزب البعث -رغم انتفاء وصفه قائداً للدولة والمجتمع من الدستور، هي في الحقيقة إجراءات تضمن تحقيق أهداف مثل مكافأة المؤيدين للنظام، وإثراء المافيات الجدد، وإيجاد مصادر تمويل إضافية للنظام.
وبالفعل، فحالة الحاج خالد في ريف حلب الجنوبي هي واحدة من عينات كثيرة وصل إليها فريق التحقيق، بين آلاف الحالات التي يجري الحديث عنها منذ العام 2020، عندما بدأ النظام بتطبيق خطته لاستثمار الأراضي الزراعية في المناطق التي استعاد السيطرة عليها بعد عام 2016، حيث بقي قسم كبير منها خارج الاستثمار بسبب عدم قدرة أصحابها على الوصول إليها، ومنع أقاربهم من العمل فيها، وقلة اليد العاملة وارتفاع تكاليف الإنتاج، وهذا العامل الأخير أثر على قدرة المتنفذين الذين استولوا على هذه الأراضي من أجل استثمارها، خاصة وأن بينها مساحات مروية تنتج موسمين في السنة الواحدة، وتحديداً في القسم الغربي من ريف حلب الجنوبي، التي تروى من نهر قويق وفروعه.
سلوك عقابي
يقول عمر. س أحد أبناء ناحية المطخ في ريف حلب الجنوبي: إن الأرض التي ورثها عن والده هو وأشقاؤه، والتي تتجاوز مساحتها عشرة هكتارات مروية، استولى عليها النظام منذ اجتياح قواته المنطقة عام 2015، ولاحقاً وضعها في المزاد المخصص لاستثمار أراضي المنطقة بعد أن رفض طلب أحد أقاربهم استئجارها.
ويتابع: على عكس معظم أراضي الناحية التي منحت الأولوية لأقارب أصحابها المهجرين في الحصول على حق الانتفاع منها، فإننا وبسبب مشاركتنا في الثورة ووجود شقيق ضابط لنا منشق عن جيش النظام وآخر شهيد، فقد تعرض قريبنا الذي حاول الحصول على عقد الاستئجار للتهديد بالملاحقة الأمنية، وطُلب منه عدم تكرار المحاولة تحت طائلة الاعتقال بتهمة التواصل مع “إرهابيين”.
ويشير عمر إلى وجود عشرات الحالات المشابهة في منطقتهم، حيث صنفت اللجان التي شكلها النظام من أجل إحصاء الأراضي التي يوجد أصحابها في الخارج أو بمخيمات النزوح إلى فئتين: الأولى أراض أصحابها غير مطلوبين وهذه توضع في جداول التأجير، والثانية يمتلكها مطلوبون سياسياً وقد منح حق استثمارها للمتنفذين من الشبيحة أو ضباط الجيش والأمن، ولا أحد يعرف إن كان هؤلاء يدفعون أي مبالغ مقابل ذلك أو لأي جهة.
سيريا ريبورت، ذكرت في ديسمبر عام 2020 عن مصدر مطلع قوله إن اللجنة الأمنية العسكرية أصدرت قراراً بتشكيل مزاد علني للأراضي العائدة للمهجرين قسراً في 11 قرية بريف حلب الجنوبي، تقدر مساحتها بنحو 350 هكتاراً فيما استحوذت ميليشيات إيرانية على حصصها من الأراضي والمنازل بشكل مباشر وتستخدم عائداتها لتمويل مجموعاتها المنتشرة بكثافة هناك وخصوصاً في محيط قاعدة جبل عزان التابعة للحرس الثوري الإيراني.
دير الزور .. من الاستثمار إلى الاستملاك
تعتبر محافظة دير الزور إحدى أكبر المناطق التي تضررت بسبب إجراءات النظام على هذا الصعيد، حيث نشرت العديد من وسائل الإعلام المحلية على مدار العامين الفائتين وثائق ومعلومات كشفت عن مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية أو المواسم في ريف المحافظة، بعد أن استعاد النظام السيطرة على أجزاء منه.
وحسب المعلومات التي أدلى بها العديد من أبناء المنطقة ممن طلبوا عدم الكشف عن هويتهم لدواع أمنية، فإنه خلال العام 2018 أبلغ قادة مجموعات الدفاع الوطني التابعة للنظام السكان أن جميع الأراضي التي يوجد أصحابها خارج المنطقة، بمن فيهم غير المطلوبين، تعتبر مصادرة بشكل نهائي “وفق القانون رقم عشرة”، وأنهم تصرفوا على هذا الأساس بالفعل فقاموا بزراعتها وجني محاصيلها.
لكن مع نشر تقارير إعلامية مكثفة حول هذا الموضوع، تدخلت منظمات دولية وبعض الحكومات الأوروبية لتحذير النظام من الآثار المترتبة على هذا التوجه، الأمر الذي لعب دوراً أساسياً في انتقاله إلى تنظيم عمليات استثمار هذه الأراضي، لدفع تهمة المصادرة عنه، دون أن يغير ذلك من واقع أن هذه الأملاك هي فعلاً باتت بحكم المصادرة، واستجابة النظام، وفق خبراء، لم تأت خشية أو خوفاً من ردات فعل المنتقدين بقدر ما أنها أشارت إلى ما يخشى مستقبلاً أن يشكل مدخلاً للطعن في إجراءاته لقوننة السطو والاستملاك، وتجلت هذه الاستجابة في تغييرات شكلية من الناحية القانونية دون أن تنال من جوهر الحزم التشريعية والغاية منها .
ويشير هؤلاء إلى المرسوم التشريعي رقم عشرة لعام 2018 والذي بات يحظى بشهرة كبيرة بين السوريين الذين رأوا فيه مقدمة لمصادرة أملاك الغائبين والمهجرين، خاصة وأنه اشترط على المالكين إبراز وثائق الملكية خلال ثلاثين يوماً من صدور قرار شمول عقاراتهم بالاستملاك، الأمر الذي عنى للكثيرين طلباً مستحيلاً وإجراء متعمداً.
ولم يقتصر هذا التفسير وقتها على المتضررين السوريين وهم بعشرات الآلاف على الأقل، بل رأت فيه العديد من الدول والمنظمات الأممية ذلك، وبينها الحكومة الألمانية التي وصفت هذا المرسوم بـ “الغادر” وطالبت بإلغائه.
وقال بيان صادر عن وزارة الخارجية الألمانية في السابع والعشرين من نيسان/أبريل 2018:“بقلق كبير نتابع محاولات نظام الأسد التشكيك عبر قواعد قانونية مريبة في حقوق الملكية لكثير من السوريات والسوريين الفارين.. في محاولة لتغيير الأوضاع في سوريا على نحو جذري لصالح النظام وداعميه وتصعيب عودة عدد هائل من السوريين”.
تعديلات شكلية
المحامي عبد الناصر حوشان عضو هيئة القانونيين السوريين، وهي منظمة غير ربحية تضم مجموعة من المحامين والناشطين الحقوقيين، يؤكد في مقابلة مع فوكس حلب أن التحرك الدولي الذي حدث في ذلك الوقت جاء بعد مذكرة أعدتها الهيئة لصالح مجلس حقوق الإنسان الدولي، لكن مع ذلك لم يؤد إلى تراجع النظام عن هذا القانون بل اكتفى بتعديله.
ويقول: بعد صدور هذا المرسوم تحركنا على الفور لمقابلة عدد كبير من الضحايا والمتضررين، الفعليين أو المتوقعين، وأعددنا مذكرة بهذا الخصوص تم رفعها لمجلس حقوق الإنسان الدولي التابع للأمم المتحدة، والذي تواصل مع عدد من الحكومات الغربية وعلى رأسها ألمانيا من أجل إلغائه، حيث قادت برلين تحالفاً من أربعين دولة للضغط من أجل تشكيل لجنة قامت بالفعل بإعداد تقرير موسع بهذا الخصوص، ما دفع النظام لتعديل فترة المهلة المخصصة لإثبات الملكية من شهر إلى سنة، لكن عملياً القانون رقم ١٠ تم إنفاذه وصودرت الكثير من العقارات في ضواحي دمشق وريفها من أجل إقامة مجمعات سكنية جديدة أو وضع مخططات تنظيمية لبعض المناطق، مثل المزة بساتين والقابون وحي تشرين وداريا وغيرها، لكن حتى الآن فإن تطبيقه ما زال مقتصراً على العقارات السكنية ولم يشمل بشكل ممنهج الأراضي الزراعية.
الاستملاك المؤجل
يقول فراس علاوي رئيس تحرير موقع الشرق نيوز، إنه وجميع أفراد عائلته كانوا من المتضررين من إجراءات النظام في الاستيلاء غير المباشر على الأراضي الزراعية التي يملكونها في ريف دير الزور، والتي بدأت قبل عامين بتشكيل لجان في المناطق التي استعاد السيطرة عليها بريف المحافظة الشرقي، من أجل إحصاء الأراضي وتحديد حالة مالكيها الغائبين.
ويوضح علاوي أنه وبعد تعرض النظام لضغوط خارجية، وخاصة من حكومات الدول التي تستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين من أجل عدم تطبيق أي إجراءات تؤدي إلى مصادرة أملاك الغائبين، لضمان عودتهم، فإنه لجأ إلى سياسة الاستيلاء على هذه الأراضي عملياً ومنحها لرجالاته والمتنفذين في كل منطقة لكن على أساس نظام الاستثمار أو الإيجار، مع عدم تغيير طبيعة الملكية في السجلات العقارية، إلا أن ذلك لا يعني أن مخاطر هذه الإجراءات على حقوق الملكية قد انتهت.
ومبرر تلك المخاوف السيطرة الأمنية على اللجان التي شكلها النظام في هذه المحافظة من أجل حصر وتأجير الأراضي الزراعية فيها، رغم أنها نظرياً ومن الناحية القانونية تتبع لوزارة الإدارة المحلية والبيئة، وتتألف من ممثلين عن ثماني جهات إدارية وفنية وأمنية، على النحو الذي بينته الوثائق التي تم الحصول عليها، والمثير للريبة فيها وجود ممثلين عن جهات أمنية وحزبية وعقارية.
وحصل فوكس حلب على وثيقة آليات عمل اللجان التي شكلها النظام، وأعضاء هذه اللجان، في حصر الأملاك في منطقة المريعية في ريف دير الزور، تبين تركيبة هذه اللجان وجود أعضاء مألوف وجودهم (مهندس زراعي متخصص -مختار القرية -رئيس الوحدة الإرشادية في المنطقة -رئيس الرابطة الفلاحية التابعة لاتحاد الفلاحين -رئيس دائرة الزراعة التابعة لمديرية الزراعة)، إضافة لعضوية أشخاص ليس من المألوف وجودهم يمكن وصفها بـ “العضوية المريبة” وهم (ممثل عن إحدى الجهات الأمنية -أمين فرقة حزب البعث في المنطقة -ممثل عن المصالح العقارية -مدير المنطقة التابع لقيادة شرطة المحافظة رئيساً للجنة)، وتنحصر الموافقة والتوقيع النهائي على عمل اللجان بمحافظ المدينة.
وتبين وثيقة أخرى حصل عليها فوكس حلب بشكل واضح ومفصل ضمن جداول الأراضي المعدة للاستئجار وجود ملاحظات بجانب اسم كل شخص من المّلاك الغائبين توضح انتماءه السياسي وطبيعة مشاركته في الثورة، ومنها (مقيم خارج القطر وليس له انتماء سياسي -بين أفراد الأسرة مسلح أو معارض -فار أو منشق عن الجيش ومؤسسات النظام الأخرى -مسلح -معارض).
أما بدل الإيجار أو استثمار كل قطعة أرض فيخضع تقدير ذلك لمجموعة محددات وما يثير الريبة وفق وثيقة حصل عليها فوكس حلب إعطاء صفة الحائز للمستثمر، وكذلك وفق مجموعة وثائق أخرى بلغ عددها ٣٨ وثيقة جرى إقحام ملاحظات أمنية وفق التصنيفات المذكورة أعلاه، وجاءت المحددات عموماً وفق (رقم العقار -صاحبه -الحائز -الوضع الراهن للحائز -ملاحظات أمنية -المساحة -طبيعة الري -الدورة الزراعية المقترحة).
وعليه، فقد بدأ المتنفذون من قوات النظام أو الميليشيات التابعة لها بالخطوات الممهدة للاستيلاء على أملاك الغائبين في دير الزور وعلى أراضيهم في ريف المحافظة، وبشكل مركز على تلك العائدة للمطلوبين لأجهزة المخابرات ومؤسسات النظام الأمنية بسبب مشاركتهم في الثورة ضده، لكن بشكل عشوائي وغير منظم، حيث وضع كل واحد منهم يده بالقوة على العقارات التي تقع في منطقة نفوذه، أو تقاسمها مع قادة وشخصيات يعمل في ظلها، لكن في عام ٢٠٢٠ تغير هذا الأمر وخصوصاً بعد تشكيل اللجان المذكورة أعلاه، كما يقول فراس علاوي.
وشملت تلك الإجراءات مختلف الأرياف التي سيطر عليها النظام في محافظة دير الزور، لكن القسم الأكبر يتركز في الريف الشرقي، بدءً من قرية المريعية المحاذية للمدينة ومطارها، باتجاه الموحسن والقورية والعشارة والبوكمال.
ويرى علاوي أن هدف النظام من تنظيم عملية استثمار الأراضي المهجر أصحابها “إضفاء الصبغة القانونية الشكلية على هذه العملية المخالفة للقانون بشكل صريح من ناحية، والحصول على جزء حتى وإن كان بسيطاً من عائدات هذه الأراضي التي لم يتغير من يستثمرها في النهاية، وأخيراً وليس آخراً إظهار أن هناك عودة لدورة الإنتاج في المناطق التي أصبحت تسمى مهجورة”.
في عين الخطر
تحذيرات مشروعة تلك التي تقول إن الإجراءات الحالية تنطوي على مخالفات قانونية خطيرة قد تترتب على هذا الأمر في المستقبل، وفي هذا السياق يؤكد الصحفي فراس علاوي إلى أن القانون السوري يمنح المستأجر لفترة طويلة الأفضلية في التملك، ويضيف: حتى في حال لم يؤد ذلك إلى نزع الملكية اليوم، فإنه عند تمكن الملاك الحقيقيين من العودة في يوم ما إلى أراضيهم، فإنهم سيكونون بحاجة إلى الدخول في متاهات القضاء من أجل استعادة عقاراتهم وهذا قد يأخذ سنوات بل عقود.
من جانبه، المحامي عبد الناصر حوشان يؤكد أن هذا الأجراء يعتبر مخالفاً لكل النصوص القانونية والدستورية الوطنية، كما تشكل انتهاكاً للقانون الدولي وتعدياً على حرمة الملكية المصانة وفق كل هذه المرجعيات.
ويضيف: قانونياً فإنه وباستثناء ما يطبق عليه القانونين المدرجة أدناه فإنه لا يمكن القول بأن هناك مصادرة أو حرمان للمالكين من ملكياتهم، فكل قرار أو قانون يفضي إلى (بيع العقار) في المزاد العلني يؤدي حتماً إلى تجريد المالكين من أملاكهم، أما المزادات على المواسم وتأجيرها فهي محصورة بمنافع هذه العقارات دون التعرض لأصل الملكية، وكي يتم تجريد أصحابها من الملكية يجب تطبيق أحد قوانين الاستملاك.
حوشان أشار إلى أن المذكرة التي رفعتها هيئة القانونيين السوريين بهذا الخصوص إلى مجلس حقوق الإنسان الدولي، والتحرك الذي تم من جانب الأمم المتحدة بناء على ذلك، دفع النظام إلى تغيير صفة اللجان المنفذة لعقود الإيجار والاستثمار، لكن دون أن يتغير جوهر العملية المخالف للقوانين.
ويضيف في تعليقه لـ “فوكس حلب”: بدأ النظام بتطبيق هذا النوع من الإجراءات في ريف حماة تعسفياً منذ عام 2017، سواء من حيث الشكل أو المضمون، حيث كانت البداية مع وضع اليد بالقوة على الأراضي التي هجّر أصحابها من قبل زعماء ميليشيات محلية تقاتل إلى جانب قوات النظام، قبل أن يقرر حزب البعث الحاكم بالاستيلاء على هذه الأراضي والمواسم الزراعية، كما يظهر كتاب صادر عن القيادة فرع حزب البعث في حماة.
على إثر هذا القرار، ومع انتشار قوائم تم الكشف عنها بالأراضي التي جرت مصادرتها على أساسه وحصل فوكس حلب على نسخة منها أعدت هيئة القانونيين السوريين الأحرار تقريراً موسعاً بهذا الخصوص معززاً بالوثائق والشهادات التي أدلى بها العديد من المالكين المهجرين من ريف حماة، تم رفعه أيضاً إلى اللجنة التابعة لمجلس حقوق الإنسان الدولي.
وقد ألحقت أعمال هذه اللجنة بلجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية في 22 آب/أغسطس 2011 بموجب قرار مجلس حقوق الإنسان S-17/1 الذي اعتُمد في دورته الاستثنائية السابعة عشرة، وعُهد إليها بولاية التحقيق في جميع الانتهاكات المزعومة للقانون الدولي لحقوق الإنسان منذ آذار/مارس 2011 في سوريا، بما في ذلك مصادرة الأملاك أو تأجيرها أو حرمان أصحابها من الاستفادة منها.
وفي تقريرها المقدم إلى مجلس حقوق الإنسان، ورد أنه عملا ًبقراره 22/46 المؤرخ في 1 آذار 2022 قدمت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية نتائجها بناء ًعلى التحقيقات التي أجريت في الفترة ما بين 1 تموز / يوليو 2021 و31 كانون الأول / ديسمبر 2021.
ويوثق التقرير، الذي حصل عليه فوكس حلب باللغتين العربية والإنكليزية، خطورة انتهاكات حقوق الإنسان الأساسية والقانون الإنساني في جميع أنحاء البلاد، وقد اعتبرت التدابير التي قام بها النظام ضد حقوق الملكية جريمة “نهب” وهي جريمة حرب و جريمة ضد الإنسانية.
وجاء في الفقرة الخاصة بها كما وردت في التقرير تحت بند (جيم) ما يلي:
تواصلت التحقيقات في اغتصاب الأراضي وحقوق الملكية للمشردين من خلال مزادات علنية في المناطق التي استعادتها القوات الحكومية، في محافظات حماة ودير الزور وإدلب، بعد أن أصبحت المزادات أكثر رسمية ومنهجية، مما يدل على سياسة حكومية ناشئة ومدروسة في هذا الصدد.
لقد تم الإعلان عن المزادات بناء ًعلى أوامر موقعة من قبل المحافظين. تم إنشاء “اللجان المحلية” -على الأقل على مستوى المنطقة -لإجراء تعداد للأراضي لإعداد قوائم المزاد، والتي عادة ما يتم توقيعها أيضاً من قبل المحافظين.
تشير القوائم الناتجة إلى المعلومات المتعلقة بالأرض، مثل الموقع ومساحة السطح والنوع (في بعض الأحيان تتضمن أيضاً إشارة إلى المحصول والإنتاج المقدر)، واسم المالك وحالته. يعكس وضع مالك الأرض (“غير موجود”، “خارج البلاد”، “رجل مسلح”، “منشق عن الجيش” أو ” إرهابي”) حقيقة أن غالبية الملاك النازحين المتأثرين يقيمون حالياً خارج المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، بما في ذلك الخارج.
وأضافت: عادة ما تزرع الأراضي المستهدفة للمزادات محاصيل عالية القيمة، مثل الزيتون وأشجار الفستق، أو تستخدم لزراعة القطن والقمح والحبوب الأخرى أو الخضار. ويدفع الفائزون بالمزاد مقابل الوصول إلى الحقول لمدة ستة أشهر أو سنة فيما يتعلق بالأشجار -أثناء الحصاد، وهذا حتى إذا استمر المالك الرسمي (الغائب) في دفع أموال للعمال لرعاية الأشجار على مدار العام.. وعادة ما يكون الفائزون بالمزاد أعضاء رفيعي المستوى في الميليشيات الموالية للحكومة أو شخصيات أخرى لها صلات وثيقة بالسلطات الحكومية.
وتابعت: في عدة حالات، كان هؤلاء الأفراد قد احتلوا بالفعل وزرعوا الأرض التي فازوا بها لاحقاً في المزادات بشكل غير قانوني، أو سرقوا محصولها، ومن ثم، يبدو أن مثل هذه المزادات تضفي الطابع الرسمي على الممارسة غير القانونية لاحتلال الأراضي ومصادرة الحصاد من قبل الميليشيات الموالية للحكومة والجهات الفاعلة المحلية الأخرى.
اللجنة توصلت إلى أنه “بين تموز (يوليو) وكانون الأول (ديسمبر) 2021، ضمت قوائم المزاد هذه التي وثقتها اللجنة أكثر من1440 مالكاً و33600 دونماً وهي أراضي في ثماني تجمعات في محافظة حماة، إضافة إلى أكثر من 10000 دونماً من الأراضي في ثلاث محليات في دير الزور، وما لا يقل عن 61991 دونماً من الأراضي في إدلب. ذكر جميع المالكين الذين تحدثوا إلى اللجنة تقريباً أنه في حين أن المساحة المشار إليها في القوائم لا تمثل سوى جزء صغير من أراضيهم، فإن ممتلكاتهم بأكملها ظلت مشغولة باستمرار منذ ذلك الحين”.
وأضافت: قد يكون للتعميم الجديد الذي اعتمدته وزارة العدل في 15 أيلول/ سبتمبر 2021 تأثير إضافي على حقوق الملكية للنازحين السوريين وعلى قدرة أقارب المالكين المفقودين على إدارة ممتلكاتهم، حيث يمنع عملية الترتيب للتصرف نيابة عن السوريين الغائبين أو المفقودين فيما يتعلق بممتلكاتهم.
وتبين الحالات الموصوفة أعلاه أن عوائق تمييزية متزايدة تفُرض على السوريين الغائبين –النازحون المقيمون حاليا ًفي الخارج أو في المناطق التي لا تخضع لسيطرة الحكومة -فيما يتعلق بممتلكاتهم.
وخلص التقرير إلى أن “حقوق الملكية الخاصة بالنازحين محمية بشكل خاص بموجب القانون الدولي الإنساني العرفي ويجب احترامها من قبل جميع الأطراف. كما يضمن القانون الدولي لحقوق الإنسان عدم حرمان أي شخص بشكل تعسفي من ممتلكاته، وقد ترقى مصادرة الممتلكات الخاصة من قبل أطراف النزاع، حسب الفقرتين 46-47 أعلاه، لا سيما عند تحقيق مكاسب شخصية، إلى حد النهب، وهو جريمة حرب”.
النهب، جريمة حرب
وكان النظام قد استبق صدور هذا التقرير بمحاولة إضفاء الصبغة القانونية على ما يقوم به، ووفق الإجراء الجديد، عمد النظام إلى تكليف اللجان الأمنية في كل محافظة بتنظيم هذه العملية، على أن تكون المراسلات والقرارات صادرة من حيث الشكل عن الأمانة العامة للمحافظة، ومستندة إلى القانون رقم 51 لعام 2004، وفق وثيقة حصل عليها فوكس حلب تشتمل على كتاب صادر عن وزارة الإدارة المحلية لإعلان إحدى المزايدات.
لكن حوشان يؤكد أن الاستناد في الاستيلاء على هذه الأراضي أو على مواسمها إلى أحكام قانون العقود العامة رقم 51 والخاص بالعقود المتعلقة بأملاك الجهات العامة وليس الخاصة “يفترض أن تكون ملكية هذه الأراضي للدولة بالأصل، أو أن تؤول اليها بموجب القانون أو القضاء أو أي سبب آخر مشروع، وحيث أن هذه الأراضي ما تزال في ملكية أصحابها من الأفراد المدنيين، فلا يجوز تطبيق قانون خاص بالأملاك والأموال العامة عليها”.
ويضيف: أن نقل صلاحية التوقيع على قرارات وإعلانات المزادات إلى المحافظ لا يُغيّر في طبيعة التصرف ويبقيه في إطار التعدّي على الأملاك الخاصة دون أي مستند دستوري أو قانوني، باعتبار أن المحافظ هو الرئيس الفعلي للجنة الأمنية في الحالة الطبيعية، وأن إسناد أمر التوقيع على القرارات إلى أعلى رتبة عسكرية أمنية مسمّاة من قبل رئيس النظام لا يغير من طبيعة الأمر شيئاً.
يشير المحامي حوشان هنا إلى استمرار النظام في اعتماد آليات تطبيق قانون الطوارئ الذي يمنح السلطة الأمنية والتنفيذية حق التصرف وإنفاذ القرارات دون العودة للقضاء أو القانون، ما يمنح المحافظ أو أمين فرع حزب البعث، وكذلك ممثل السلطة العسكرية الحق في إصدار القرارات وتطبيقها، على الرغم من إعلان النظام إلغاء العمل بهذا القانون منذ عام 2011.
وقد تم اعادة صلاحية التوقيع على القرارات الخاصة بهذا الملف إلى المحافظ في كل محافظة، بسبب إدانة اللجنة الأمنية العسكرية من قبل لجنة التحقيق الدولية بجريمة النهب، واعتبارها تصرفاً يرقى إلى مستوى جريمة حرب “فظنّ النظام أنه يستطيع التحايل على القانون بإعادة التوقيع للمحافظ أو الاستناد إلى قانون العقود العامة، وهو ما كان قد بدأ به في حماة” حسب حوشان.
نهبٌ معمم انتقامي
أبو محمد مهجر قسرياً من مدينة كفرزيتا في ريف حماه الشمالي التي نزح أكثر من 70% من سكانها منذ عام 2013 بسبب حملة قصف النظام المركزة على المدينة بالبراميل والحاويات المتفجرة، قبل أن يغادر منتصف نيسان/ أبريل عام 2014 بسبب استخدام السلاح الكيماوي، ولم يبق فيها إلا عدد قليل من الشباب لحماية ما تبقى من أرزاق وأراضي وممتلكات.
واستمر الحال على هذا النحو طيلة ست سنوات كان خلالها الأهالي أو قسم منهم يرسلون من يعتني بأشجارهم ومواسمهم، أو يستأجرون من يقوم بهذه المهمة وكذلك بمهمة جني المحاصيل في كل عام، حتى صيف 2019 عندما تم احتلال ما تبقى من ريف حماه الشمالي وريف إدلب الجنوبي والشرقي، لتضع أجهزة المخابرات المتعددة وميليشيات الشبيحة يدها على الأراضي والحقول، وتتقاسمها فيما بينها.
يقول أبو محمد: نهبت عصابات الأسد مواسم الفستق الحلبي والزيتون في كفرزيتا واللطامنة في العام 2019، وكذلك في العام 2020 نهبت وحرقت أكثر من 7000 دونماً من مواسم القمح بسبب خلافات بين قادة هذه المجموعات حول توزيع الحصص المستولى عليها، وقد قتل جار لي أثناء قيامه مع بعض من تبقى من أبناء المدينة في محاولة إطفاء الحريق.
ويضيف: كانت أراضينا أنا وجميع أفراد عائلتي من ضمن الأراضي التي تعرّضت للنهب، وتقدّر بـ 250 دونماً من الفستق الحلبي المعمّر، فحقولنا من أقدم الحقول في المنطقة وتصل أعمارها إلى 75 سنة تقريباً، حيث تم الاستيلاء على المواسم بموجب قرار من اللجنة الأمنية العسكرية بحماة على مدار ثلاثة أعوام بدء من 2019 حتى عام 2021.
وحسب التقديرات فإن مساحات الأراضي والمواسم التي تم نهبها في مدينة كفرزيتا وحدها، تقدر بحوالي 14 ألف دونماً، منها حوالي 7000 دونماً مزروعة بالفستق الحلبي، وحوالي 3000 دونماً حقول زيتون، والباقي أراضي زراعية مخصصة للقمح والشعير والحبوب.
مزادات وهمية
من جانبه يكشف الحاج سعيد، وهو من مهجري مدينة مورك في ريف حماة الشمالي وهو أحد الضحايا أيضاً من أهالي المنطقة، عن أنه حتى عام 2020 اقتصر وضع اليد وتضمين المحاصيل في ريفي حماة وإدلب على حقول الزيتون والفستق الحلبي بدرجة أساسية، على اعتبار أن هذه الحقول لا تحتاج لجهود كبيرة باستثناء عملية القطاف، بعد أن أهمل من استولى عليها العناية بها، لكن في عام 2021 أضافت اللجنة الأمنية العسكرية بحماة الأراضي “السليخ” إلى الأراضي المشجرة في عملية الاستيلاء، حيث طرحتها للتأجير وفق مزادات وهمية ترسو بالنهاية على قادة مجموعات الشبيحة المرتبطة بالأجهزة الأمنية والمخابرات، وقد بلغت المساحات الإجمالية المستهدفة في ريف حماة نحو 70 ألف دونم.
يروي الحاج سعيد أن العديد من جيرانه الذين يقطنون في مخيمات النزوح أو خارج سوريا حاولوا استعادة الحق في الانتفاع من حقولهم وأراضيهم، قد نجحوا بالفعل في ذلك، خاصة الذين لديهم أقارب نافذين في الأمن أو ميليشيات الشبيحة، وقد استأجروا من يعتني بمحاصيلهم ويقطفها لهم، لكن ذلك لم يطل حيث تنبه المتنفذون الكبار إلى ذلك وصدر قرار بمنع استثمار الأراضي والكروم في ريف حماة إلا عن طريق المشاركة بالمزادات، وفق وثيقة حصل عليها فوكس حلب، في تأكيد جديد على أن هذه الإجراءات باتت ممنهجة على مستوى الدولة.
دعم عائلات قتلى قوات النظام
ويضيف الحاج سعيد: أن عمليات النهب تدور في دائرة مغلقة أطرافها ” اللجنة الأمنية العسكرية بالمحافظة –الشبيحة –الأجهزة الأمنية في المحافظة –المحافظ وأمين فرع حزب البعث في المحافظة “، بالتعاون مع بعض تجار الفستق الحلبي الذين أنشؤوا ودعموا ومولوا مجموعات الشبيحة في القرى والمدن في المنطقة.
وبينما تكشف وثيقة صادرة عن حزب البعث في حماة عام 2019 المشار إليها سابقاً عن أن الهدف من تأجير الأراضي التي فر منها أصحابها لصالح دعم أسر القتلى الذين سقطوا خلال مشاركتهم في المعارك إلى جانب قوات النظام فإن شهادات متقاطعة لعدد من أبناء المنطقة أكدت أن هذه القوى المستفيدة من ذلك رصدت جزء من واردتها هذه لتعويض عائلات قتلى الشبيحة من غير العسكريين، عبر مؤسسة ” الشهيد ” التي أنشئت لرعاية قتلى الشبيحة من دفاع وطني ودفاع محلي، وأعضاء مجلس إدارتها جميعاً قادة مجموعات وميليشيات تقاتل إلى جانب قوات النظام في كل من حماة وحمص ودير الزور ودمشق واللاذقية وطرطوس والسويداء.
وفي شهادة أخرى كشف ياسين. ح من منطقة سهل الغاب بريف حماة لفوكس حلب أنه تمكن قبل أشهر قليلة فقط من استعادة حق الانتفاع بأرضه لكن كمستأجر لها يتوجب عليه دفع مبلغ سنوي كبير مقابل ذلك.
يقول ياسين: استجبت لدعوات النظام من أجل العودة إلى بلدتي بعد أن تأكدت عبر وسطاء أنني غير مطلوب لأي من أجهزة الأمن، فغادرت المخيم الذي كنت أقيم به على الحدود السورية التركية وعدت إلى بيتي وأرضي لكنني تفاجأت أنه لا يمكنني استئناف العمل بها قبل مراجعة اللجنة المختصة بإدارة أراضي المنطقة.
ويضيف: عندي مراجعتي للجنة من أجل الحصول على التصريح المطلوب من أجل ذلك، أخبروني أن أرضي قد أدرجت ضمن الأراضي المشمولة بقرار التأجير، وأنه لكي أتمكن من زراعتها يتوجب علي دفع 250 ألف ليرة عن كل دونم سنوياً لأن الأرض مروية، وهو مبلغ كبير طبعاً، لكنني اضطررت لدفعه فهذا أفضل من أن أخسر كل شيء.
حرب السطو على الأملاك
توصف الإجراءات التي يطبقها النظام فيما يتعلق بأراضي ومواسم المواطنين المهجرين قسرياً بالمخالفة لمبادئ الدستور والنصوص القانونية الوطنية والدولية، ويضيف المحامي عبد الناصر حوشان أنها تأتي في إطار “خطة نظام بشار الأسد الهادفة لتجريد السوريين من أملاكهم المنقولة وغٌير المنقولة سواء في مصارفه أو دوائره العقارية، حيث بدأ بقوانين مكافحة الإرهاب ثم القانون رقم 10 لعام 2018 الذي طال أملاك السوريين المسجلة في السجلات العقارية، ليصل اليوم إلى حرمانهم من حقوق الانتفاع والإيجار والمزارعة وجني المحاصيل، وسلبها و تقدٌيمها لشبيحته وعصاباته مكافأة لهم عن جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعب السوري بالاستناد إلى قرارات صادرة عمّا يسمى باللجان الأمنية، وفق تعبيره.
ويقول: إن هذا القرار مخالف للمادة ” 15″ من الدستور التي نصت على أنه “لا تنزع الملكية الفردية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل وفقاً للقانون، ولا تفرض المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي”.
أما من الناحية القانونية، يعتبر هذا التصرف اعتداء صارخاً على حق المالكين بالتصرف في هذه الملكيات المقرر في المادة “768 ” من القانون المدني، التي تنص على “أنه لمالك الشيء وحده في حدود القانون حق استعماله واستغلاله والتصرف فيه”، كما يعتبر أيضا سرقة ونهباً لثمار هذه الملكيات التي قرر القانون أنها من حق المالك حصراً، حسب ما ورد في المادة “770” منه وتنص على “أن لمالك الشيء الحق في كل ثماره ومنتجاته وملحقاته ما لم يوجد نص أو اتفاق ينص على خلاف ذلك”.
وينوه حوشان إلى أن حقوق المنتفعين في أراضي الإصلاح الزراعي، والتي طالتها هذه القرارات، مصانة وفق أحكام قانون الإصلاح الزراعي والقانون المدني، باعتبارها حق انتفاع تحميه أحكام الحيازة، وخاصة بعد صدور القانون رقم “61” لعام 2004 الذي نص على أن “يعد المنتفع من أراض الدولة مالكاً للأرض الموزعة عليه من تاريخ اعتماد التوزيع من قبل لجنة الاعتماد في المحافظة، وتسجل باسمه في السجلات العقارية بناء على طلب من مديرية الزراعة والإصلاح الزراعي المختصة”، مشدداً على أن هذا يعني أن الأراضي المذكورة هي جارية في ملكية أصحابها حتى لو لم يقوموا بإجراءات تسجيلها في السجل العقاري، وبالتالي فإن أي اعتداء على هذه الملكية هو مخالف للدستور والقانون.
أما من ناحية شرعة حقوق الإنسان، فإن هذه الإجراءات تعد انتهاكاً لنص المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي نصت على أنه “لكل شخص الحق في التملك سواء وحده أو مع آخرين، ولا يجوز حرمان أحد من ملكيته تعسفاً”.
كما تشكل انتهاكاً للاتفاقيات الدولية التي ورد فيها النص على حماية حق الملكية، مثل الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، التي نصت في مادتها الخامسة على حق الجميع في المساواة أمام القانون دون التمييز على أساس العرق أو اللون أو الأصل العرقي أو القومي، بما يتضمن الحق لكل شخص في التملك سواء وحده أو مع آخرين، إضافةً إلى حق التوريث.
كما تم التأكيد على حق الملكية في الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين، والاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، من خلال النصوص التي تحظر التمييز فيما يتعلق بحقوق الملكية إذ إنها تضمن هذه الحقوق، ناهيك عن انتهاكها للمبادئ التوجيهية بشأن التشريد الداخلي المعني بتوفير الحماية للأموال والممتلكات التي يتركها المشردون داخلياً وراءهم، وذلك “من التدمير والاستيلاء التعسفي وغير القانوني، وأيضاً من شغلها أو استخدامها، إضافة إلى رفض الاستيلاء “كشكل من أشكال العقوبة الجماعية لتصرفات من قبيل جرائم النهب والسلب والتعدي على الأملاك والأعيان المحمية المنصوص عنها بالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان” وهي بذلك جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وبالإضافة إلى ما سبق، يؤكد المحامي حوشان على أن “عملية النهب تعتبر جريمة حرب، كما نصَّت على ذلك القوانين الأساسية والأحكام الصادرة عن المحكمتين العسكريتين في نورمبرغ وطوكيو ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية”.
ويتابع: علاوة على ذلك، يعتبر النهب انتهاكًا خطيراً لاتفاقيات جنيف إذا ما اتخذ شكل تدمير الممتلكات أو الاستيلاء عليها على نطاق واسع لا تبرره الضرورات الحربية، وبطريقة غير مشروعة وتعسفية “المادة 50 من اتفاقيّة جنيف 1، والمادة 51 من اتفاقيّة جنيف 2، والمادة 130 من اتفاقيّة جنيف 3، والمادة 147 من اتفاقيّة جنيف 4، والمادة 4 من البروتوكول 2”. كما أنه أمر محظور في النزاعات الدولية والداخلية بموجب اتفاقيات جنيف وبروتوكوليها الإضافيين، وكذلك القانون الدولي الإنساني العرفي “القاعدة 52 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر للقانون الدولي الإنساني العرفي” والقانون الجنائي الدولي “نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. المادة 8-2 ب-16، و8-2-هـ -5”.
تتضامن كل النصوص والمواد القانونية والدستورية، سواء السورية منها أو الدولية، للتأكيد على أن الإجراءات التي يطبقها النظام على أملاك الغائبين والمهجرين قسرياً، وخاصة تأجير أراضيهم الزراعية أو استثمار محاصيلها، سواء بشكل منظم أو عشوائي، تعتبر انتهاكاً صارخاً، وتمثل ما يمكن أن يرقى إلى مستوى جرائم الحرب، خاصة بعد أن لجأت حكومته إلى تبنى هذه الإجراءات بشكل رسمي من خلال تشكيل لجان إحصاء وتقدير وتأجير وتنظيم مزادات..الخ، الأمر الذي يجعلها مدانة بشكل واضح، على الرغم من محاولتها إسباغ الصفة القانونية على هذه الجريمة، لكن من دون أن تجد أي مادة أو مستند يمكن أن تغطي بها هذه الانتهاكات، وتمنع المحاسبة عليها لاحقاً متى أصبح ذلك بالإمكان.
نضع بين أيدكم عينة من 55 وثيقة حصل عليها فوكس حلب وهي مصنفة على أنها سرية غير قابلة للتداول إلا ضمن أعضاء اللجنة المعنية بإحصاء وتحديد الأراضي ومن بين أعضاء هذه اللجنة ممثلين عن جهات أمنية وحزبية، كما يبدو لافتاً تحديد صفة الحائز بوصفه المستثمر الفعلي للأرض، وجميع هذه الوثائق تتعلق فقط بمنطقة جغرافية محدودة نسبيا هي مورك و لحايا، وإحصائياً فقط في مورك ومحيطها نجد أن عدد الحائزين وصل إلى 754 شخصاً لمساحة 15411 هكتاراً وبإجمالي عائد سنوي يصل لنحو ٤ مليارات ليرة سورية.
كانت المناطق المذكورة آنفا، إن صح التعبير، هي عينة، تكشف الآليات والمآلات، في قضية نهب الأراضي، بدء من تحويل أصحابها إلى مستأجرين وصولًا إلى نقل الملكية، إضافة إلى عمليات الغصب الذي تتكفل به ميليشيات إيرانية وأخرى تابعة للنظام، وهو ما يطرح تساؤلاً كبيراً عن حجم هذه العمليات في عموم الأرياف التي استعادت السيطرة عليها قوات النظام.
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع