طرح الصديق ميشيل كيلو أفكاراً على غاية الأهمية، في مقالته “مشكلة تتطلب حلاً عاجلاً” في “العربي الجديد” (18/6)، تحدّث فيها، بصراحته المعهودة، عن التحولات والتعقيدات والمداخلات الخارجية الحاصلة في الصراع السوري. كتب: “قبل الحرب الأميركية ضد الإرهاب والاحتلال الروسي لسورية، كان حل القضية السورية يعني تطبيق وثيقة جنيف… لإقامة نظام ديمقراطي، لا محلّ فيه للأسد ونظامه، تتوقف بقيامه الحرب ويسود السلام. بعد إدخال واشنطن قوات “البايادا” بقوةٍ إلى الحرب، وقتال روسيا المكثف ضد الجيش الحر، لم تعد تسوية صراع المعارضة/ النظام كافيةً لتسوية المسألة السورية، ولم يعد حل “جنيف 1” كافياً لإنهاء الصراع، لسببين: ضمور مطلب تغيير النظام في أولويات الدول الكبرى والإقليمية، وبروز توجه يتصل بإعادة النظر في بنية الدولة السورية وهويتها”… ما “يطرح السؤال حول ما إذا كانت الدولة الديمقراطية تلبي المطالب القومية لبعض مكوّنات الشعب السوري، علماً بأنها ليست موجهة إلى النظام، بل إلى الثورة وبديلها الديمقراطي الذي يخيّر بين قبول حكم ذاتي فيدرالي في الدولة الجديدة وتقويض قدرتها على حل مشكلات سورية، في حال حافظت على بنيتها المركزية”. ويتابع: “إذا كانت القرارات الدولية لا تصلح لتسوية هذه المشكلة، فهل نتوقع أن تصدر قراراتٌ جديدةٌ تنظم علاقاتٍ تلبي مطالب “البايادا” وبين الدولة المنشودة؟ أية علاقة ستربط هذه القرارات بوثيقة جنيف، وما نتج عنها من قرارات؟” ويتساءل: “يبدو الحل الديمقراطي كأنه يبتعد بقدر ما يتداخل مع الحل القومي، أو يتوارى وراءه، فهل ابتعاده مؤقت، وهل يحسن بنا انتظار تدخلاتٍ من خارج الشرعية الدولية تتيح للدول الأجنبية المتصارعة في بلادنا، التلاعب بالحل القومي، بعد أن تلاعبت، طوال نيفٍ وخمسة أعوام، بالحل الديمقراطي؟ ألا يجب علينا المبادرة إلى إجراء حوار وطني، يشارك فيه ممثلون عن جميع مكونات الشعب السوري، يحدّد هوية المطالب القومية وحدودها، ويجعل الحل الديمقراطي مدخلاً ملزماً إلى تحقيقها؟”.
هذه التساؤلات جد مشروعة، وعلى المعارضة السورية أن تعقد ورشة لمناقشتها، خصوصاً عليها أن تشتغل على صوغ مقاربة سياسية واضحة، تتعلق بالمسألة الكردية في سورية، بما يحفظ وحدة أرض سورية وشعبها، وبما ينصف الأكراد، ويعترف بخصوصيتهم القومية.
ومن معرفتي المباشرة، واهتمامي بهذه القضية، أعرف أن المعارضة حاولت ذلك، وثمّة مداخلاتٌ إقليمية ترسم سقفاً لمقاربةٍ كهذه، وأن ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي وقواته “حماية الشعب” تثير الشبهات، إلا أن هذا لا يعفي أحداً من المسؤولية عن القصور في إيجاد مقاربة مشتركة.
ولعل الثورة من أجل الحرية والكرامة، لكل السوريين، مواطنين وجماعات، تحث على تفهم المسألة الكردية من خارج إطار المفاهيم السائدة التي طالما غيّبت، أو همّشت، حال التنوّع السوري، الإثني والديني والمذهبي، وتعاملت معه بطريقة توظيفية، أو على أنه جزء من فولكلور، سواء في الخطاب السلطوي للنظام أو في خطابات أطراف المعارضة، في حين تم إنكار هذا الاختلاف أو طمسه، أو مواجهته بطريقة تعسّفية.
هكذا، فإن انطلاقة الثورة وضعت أطياف المجتمع السوري في خضم مواجهتين في آن: في مواجهة نفسها، بما يعني ذلك تعريفها ذاتها الهوياتية ومكانتها وأولوياتها. وفي مواجهة بعضها بعضا؛ علما أن المداخلتين مستغرقتان في المشروع العام للثورة
في كل الأحوال، إن صوغ الإجماعات السورية الجديدة هو من أولى مهمات المعارضة التي تطرح نفسها بديلاً للنظام، ما يفترض منها أن تتجاوز صندوقه السياسي والمفاهيمي، وأن تعترف بالأخطاء والتقصيرات الحاصلة في التعاطي مع المسألة الكردية. ولا بد أن ينطلق ذلك، بدايةً، من اعتبارها قضية الكرد قضية شعبٍ له خصوصيته القومية وطموحاته الخاصة التي يجب أخذها بالاعتبار، لأن قضية الحرية لا تتجزأ، ولا يجوز أن نطلب الحرية أو حق تقرير المصير لأنفسنا ونمنعها عن الآخرين، وإنما ينبغي التوصل إلى حلولٍ مناسبةٍ، وفق منظور ديمقراطي وسلمي، يراعي التطورات الاجتماعية والسياسية الحاصلة في مجتمعنا.
انطلاقا من ذلك كله، أعتقد أن الصديق ميشيل كيلو يتفهم أن المعضلة المتمثلة في إيجاد مقاربةٍ مناسبةٍ وديمقراطيةٍ للمسألة الكردية، لا تتبدّى فقط إزاء الثورة والمعارضة السوريتين، إذ هي تتبدّى أيضاً إزاء الأكراد أنفسهم، أفراداً وكيانات سياسية، أي أنها معضلة كردية أيضا، ما يعني أن هذا السؤال مطروح أمام الكرد أنفسهم، قبل أي أحد آخر.
مثلاً، إذا كان بعض الكرد يرون أنفسهم جزءاً من أمةٍ كرديةٍ متمدّدة بين عدد من بلدان المنطقة (وهذه حقيقة)، فإن هذا يطرح تساؤلاتٍ على من يعملون وفقاً لهذا النهج، أو هذه الرؤية، إن كانوا يرون أن الكردية “الأممية” تتقدّم على الهوية السورية؟ أو ماذا سيفعلون بخصوص مواطنيتهم السورية؟ السؤال التالي الذي يطرح نفسه لمن يعطي الأولوية لهويته الكردية ـ القومية هو: هل هذا الوقت الدولي والإقليمي المناسب لقيام دولةٍ كرديةٍ عابرةٍ لبلدان سورية والعراق وتركيا وإيران؟ وهل موازين القوى تسمح بذلك؟ ثم هل هذا الظرف المناسب للخروج من إطار الوطنية السورية، وتقويض وحدة سورية، وطناً لكل السوريين، في زمنٍ تشتد فيه معركتهم من أجل حريتهم، ومن أجل إسقاط نظام الاستبداد وهزيمة قوى التطرف المسيطرة الآن على المشهدين السوري والعراقي في آن معاً؟ أخيراً، أليس الأجدى إيجاد معادلةٍ تضمن التوازن بين الانتماء والخصوصية القوميين والانتماء لسورية، وطناً ومجتمعاً، في نظام ديمقراطي يتأسّس على دولة مواطنين أحرار ومتساوين، في آن معاً.
هذه الأسئلة أو ما يعادلها جرأةً وصراحةً وجديةً مطروحة على قوى المعارضة، أيضا، التي هي مدعوّة لمناقشة المسألة الكردية، وهذا ما يجعلني أضم صوتي إلى صوت ميشيل في هذا الأمر، حتى لا نكرّر تجربة النظام الاستبدادي الإقصائي في طمس تعدديّة مجتمع السوريين وتنوعه، وسلبهم خصوصياتهم وحريتهم، وحتى نتمكّن من صوغ معادلةٍ جديدةٍ في عقد اجتماعي جديد، يعترف بمكونات المجتمع السوري الإثنية والطائفية، في إطار وحدة أرض سورية وشعبها، مع تأكيد ذلك في نصوص دستورية واضحة.
ما يجدر التأكيد عليه، هنا، هو الحرص على عدم افتعال معارك وهمية، أو الدخول في مناقشات بيزنطية، من حول الفيدرالية أو غيرها، لأن هذا سيكون من مهام الهيئة الدستورية مستقبلاً، وبالوسائل الديمقراطية، مع فهمنا أن الإصرار على الدولة المركزية مساوٍ تماماً للدولة الاستبدادية، أو قد يفضي إليها، ما يستوجب البحث عن خياراتٍ لشكل دولةٍ لا يُستبعد فيها أي خيار مسبقا، ولا يقرّر مسبقا من أي طرف، علماً أن فكرة الفيدرالية لا تتعلق بالكرد وحدهم، وإنما تتعلق بمختلف مناطق سورية، ولاسيما الأطراف التي ظلت مهمّشة، ومحرومة حتى من مواردها، ومن الافتقاد للخدمات المناسبة. ويستنتج من ذلك أن فكرة الفيدرالية لا تقوم على عمود الطائفية ولا الإثنية، وإنما على أساسٍ مناطقي أو جغرافي، وعلى أساس دولة مواطنين أحرار ومتساوين، وفي دولة مدنيةٍ ديمقراطية، أي دولة مؤسسات وقانون، بغض النظر عن الانتماءات القبلية، مع الحفاظ على خصوصية الجماعات القومية، لأن هذه جزءٌ من الحرية والديمقراطية.
لذا، نحن مدعوون اليوم جميعاً للإجابة على هذه الأسئلة المهمة، وصوغ إجماعات جديدة لسورية جديدة، سورية دولة مواطنين أحرار ومتساوين ودولة مدنية ديمقراطية.
العربي الجديد_سميرة المسالمة