ما تحاول الإدارة الأميركية تغطيته منذ سنوات عبر التصريحات المتناقضة في شأن النظام السوري، كشفه وزير الخارجية جون كيري أخيراً. قال كيري إن علينا في النهاية “التفاوض مع النظام”. نعم، التفاوض مع النظام. ولكن من أجل ماذا؟. هل يفيد التفاوض في خروج النظام والانتهاء منه تلبية لرغبات الشعب السوري؟.
الأهمّ من ذلك كلّه، هل النظام الأقلّوي، الذي ليس لديه ما يقدّمه للسوريين غير البؤس والتهجير والبراميل المتفجّرة، قادر على حكم سوريا يوماً…أم أن المطلوب الانتهاء من سوريا لا أكثر؟. هل كلام كيري مجرد استرضاء لإيران، على حساب الشعب السوري وسوريا، في وقت دخلت المفاوضات في شأن ملفها النووي مرحلة حاسمة؟.
بغض النظر عن كلّ هذا النوع من الأسئلة، بما في ذلك الربط بين الموقف الأميركي الجديد من سوريا والملف النووي الإيراني، يبقى أنّ من يقرّر مستقبل سوريا ومصيرها هو الشعب السوري الذي دخلت ثورته سنتها الخامسة. الشعب السوري هو مَن سيخرج بشّار الأسد وايران من سوريا، مثلما أخرج اللبنانيون قوّات النظام السوري وأجهزته من لبنان.
مَن أخرج النظام السوري من لبنان تمهيداً لإخراجه من سوريا هو الشعب اللبناني. لو تُرك الأمر في مثل هذه الأيّام من العام للإدارة الأميركية، لما خرجت القوات السورية من لبنان. نزل اللبنانيون إلى الشارع وأخرجوا القوات السورية من الأراضي اللبنانية. هذا كلّ ما في الأمر. هذا ما يرفض جون كيري ومَن هم حوله ومَن هم فوقه استيعابه.
قبل كلام كيري من شرم الشيخ، الذي سعى عبره إلى إضفاء شرعية على نظام لم يمتلك يوماً أيّ نوع من الشرعية، قال جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي.آي.إي) أمام “مجلس العلاقات الخارجية” في نيويورك إنّ الولايات المتحدة وحلفاءها، كذلك روسيا ودول المنطقة “لا تريد انهياراً للحكومة والمؤسسات الرسمية في دمشق”.
ما يبرّر مثل هذا الكلام التجربة العراقية، العالقة في ذهن مدير ال”سي.آي.إي” والقرار الذي اتّخذته الولايات المتحدة بحلّ الجيش العراقي. إتخذ القرار بول بريمر الذي كان حاكم العراق في ظلّ الاحتلال الأميركي وذلك بعيد غزو البلد في العام واسقاط نظام صدّام حسين العائلي البعثي.
هناك بالفعل ما يدعو إلى تفادي التجربة العراقية في سوريا. لكنّ المشكلة التي تعبّر عنها تصريحات مدير ال”سي.آي.إي” تكمن في أنّ واشنطن تأخرت سنوات عدّة، في سعيها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المؤسسات الرسمية السورية.
كانت الحجة الأساسية التي استند إليها برينان أنّ التركيز يجب أن يكون في هذه المرحلة على المواجهة مع تنظيم “الدولة الإسلامية”. وهو يقول في هذا المجال: “إنّ آخر ما نريده هو زحف داعش على دمشق. ولذلك، علينا دعم القوى المعتدلة”. منذ متى ينتمي النظام السوري والميليشيات المذهبية التابعة لإيران إلى “القوى المعتدلة”؟.
نسي مدير ال”سي.آي.إي” أن تنظيم “الدولة الإسلامية” لم يظهر بالقوّة التي ظهر بها إلّا في العام الماضي، في حين كانت القوى المعتدلة تواجه النظام السوري وتعمل على اسقاطه. نسي أنّ الإدارة الأميركية لم تدعم هذه القوى عندما كان عليها أن تدعمها، خصوصاً عندما استخدم النظام السوري السلاح الكيميائي صيف العام . وقتذاك، تجاوز النظام “الخط الأحمر” الذي شدّد عليه الرئيس باراك اوباما.
تبيّن أن اوباما يرى كلّ الألوان باستثناء اللون الأحمر، فإذا به يضع مستقبل سوريا في يد اعداء الشعب السوري المشاركين في ذبحه، أي في يد روسيا وايران.
ما يطرحه كيري وبرينان كلام تجاوزه الزمن. كان هذا الكلام منطقياً وقابلاً للتطبيق في بداية الثورة السورية وقبل ظهور “داعش” الذي استثمر فيه النظامان الإيراني والسوري وصولاً إلى ما وصل إليه الوضع. كان في الإمكان إنقاذ المؤسسات السورية، بما في ذلك مؤسسة الجيش، لو أقدمت الولايات المتحدة على خطوة تؤدي إلى التخلص من النظام ورموزه في الأشهر التي تلت اندلاع الثورة السورية التي هي ثورة شعبية حقيقية تعبّر عن تطلّعات الأكثرية الساحقة للسوريين.
ما يمكن قوله الآن إنّ النظام السوري و”داعش” وجهان لعملة واحدة. كلّ كلام يميّز بين النظام السوري و”داعش” يخدم النظام الذي لم يعد أمامه، بعدما أصبح تحت رحمة ايران وميليشياتها المذهبية اللبنانية والعراقية والأفغانية، سوى وضع يده على جزء من سوريا لإقامة دويلة طائفية فيها تكون تحت الوصاية الإيرانية.
كلام كيري وبرينان، في ضوء التطورات السورية، كلام حقّ يراد به باطل. اللهمّ إلّا إذا كان الهدف الحقيقي للإدارة الأميركية تفتيت سوريا، بالتعاون مع ايران والتنسيق معها، وليس لإنقاذ المؤسسات والحكومة.
كلّ ما تبقى تفاصيل وأوهام وهرب من واقع ترفض الإدارة الأميركية الاعتراف به.
مثلما أخطأ الأميركيون في العراق، نراهم اليوم يخطئون بمقدار أكبر في سوريا، خصوصاً في ظلّ اعتقادهم أنّ لإيران هدفاً آخر غير تدمير العراق وسوريا وصولاً إلى احتلال لبنان بشكل رسمي عن طريق اتفاقات من النوع الذي حاولت طهران فرضه بكلّ الوسائل على حكومة الرئيس سعد الحريري في العامين و.
مَن يتذكّر كيف قاوم سعد الحريري ما حاولت طهران فرضه بالقوة وقتذاك، فيما وقفت اميركا موقف المتفرّج من المقاومة اللبنانية للمشروع التوسّعي الإيراني؟.
خيرالله خيرالله – المستقبل