لم يعد الخلاص من النظام السوري مجرّد حلم. هناك للمرّة الأولى، منذ فترة لا بأس بها، إشارات متلاحقة تؤكّد أن المسألة مسألة وقت فقط وأنّ على النظام أن يتغيّر جذريا في ضوء عجزه عن تغيير نفسه. لم يعد السؤال المطروح هل يتغيّر النظام بمقدار ما المطروح مصير سوريا.
كان آخر إيحاء بأنّ التغيير سيحصل الكلام الصادر عن جيمس جيفري مسؤول الملفّ السوري لدى الإدارة الأميركية الذي يعقد بين حين عن طريق الإنترنت ندوات افتراضية يجيب فيها عن أسئلة متعلّقة بالوضع السوري والمواقف الأميركية منه.
لم يخف جيفري في الندوة الأخيرة أن الهدف الأميركي إحداث تغيير في سوريا. ما يؤكّد ذلك قوله إن الولايات المتحدة تريد تغييرا في سلوك النظام ولا تريد تغيير النظام. مثل هذا الكلام يشير بوضوح إلى الرغبة في الانتهاء من النظام. يدلّ على ذلك الشروط الأميركية السبعة التي يشدّد عليها جيفري وغيره من كبار المسؤولين الأميركيين منذ فترة طويلة. إنّها شروط يستحيل على النظام تنفيذها كي يتخلّص يوما من “قانون قيصر”.
بكلام أوضح، إن أميركا تقصد عكس ما تقوله، خصوصا أنّ المسؤولين فيها يعرفون جيّدا أن النظام السوري لا يستطيع تغيير سلوكه، بدءا بإطلاق المعتقلين وانتهاء بخروج القوات الإيرانية وتوابعها، مرورا بتنفيذ القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. يدعو هذا القرار، بين ما يدعو إليه، إلى “فترة انتقالية” في سوريا. هناك نظام لا يقبل أيّ فترة انتقالية ولا يقبل أيّ دستور جديد، إذا لم يكن هذا الدستور على مقاس بشّار الأسد.
مجرّد تغيير النظام لسلوكه يعني أوتوماتيكيا تغيير النظام. في النهاية، إن عمر هذا النظام نصف قرن إلّا خمسة أشهر تقريبا وهو يعمل وفق قواعد محدّدة في مقدّمها التخلّص عن طريق السجن أو القتل من المعارض أو حتّى من المشكوك بولائه.
لكنّ أهمّ ما في الكلام الصادر عن جيمس جيفري حديثا تأكيده أن السياسة التي تتبعها واشنطن تجاه سوريا وإيران ليست سياسة الإدارة الحالية برئاسة دونالد ترامب، بل هي “سياسة أميركا”. الترجمة العملية لذلك أن الانتخابات الأميركية لن تؤدي إلى أي تغيير في السياسة الأميركية حتّى لو فاز الديمقراطي جو بايدن على ترامب الجمهوري.
هناك من ينسى أن طرح “قانون قيصر” في الكونغرس كان في عهد باراك أوباما الذي كان بايدن نائبه. مرّ القانون ابتداء من العام 2016 بمراحل عدّة قبل تمريره في الكونغرس وإيصاله إلى البيت الأبيض حيث وقّعه دونالد ترامب في كانون الأوّل – ديسمبر الماضي تمهيدا لأن يصبح نافذا في السابع عشر من حزيران – يونيو 2020.
الأكيد أنّ النظام السوري لا يستطيع الاعتراف بأنّ “قانون قيصر” يعني نهايته. لذلك، ليس لدى وزير خارجيته وليد المعلّم سوى ترديد ما تمليه عليه مجموعة من الذين يعيشون في عالم لا ينتمي من قريب أو بعيد إلى الواقع عن أنّ “ما يسمّى قانون قيصر هو قانون اليائس لأن سوريا سجّلت انتصارات في الميدان وعلى قوانين سابقة أحادية الجانب”.
ليس معروفا عن أيّ انتصارات يتحدّث وليد المعلّم أو أولئك الذين طلبوا منه قول مثل هذا الكلام البائس. كيف يمكن أن يكون الانتصار على الشعب السوري المنتفض منذ تسعة أعوام من أجل بعض من كرامة انتصارا؟ كيف يمكن لنظام الكلام عن انتصارات في حين أن سوريا تحت خمسة احتلالات، هي الإيراني والروسي والتركي والإسرائيلي والأميركي؟
فهمت روسيا أنّ عليها التكيّف مع “قانون قيصر” في حال كانت تريد المحافظة على مصالحها في سوريا في مرحلة ما بعد رحيل النظام. سيكون لروسيا مكان في سوريا، خصوصا في ظلّ المباركة الأميركية لوجودها فيها وفي ظلّ التفاهم القائم بينها وبين كلّ من إسرائيل وتركيا.
تدفع سوريا اليوم ثمن إصرار نظام أقلوي على ممارسة لعبة التذاكي طوال نصف قرن. ما نشهده حاليا هو نهاية للعبة التذاكي التي تكشف جانبا منها مذكرات الرئيس اللبناني السابق أمين الجميّل الذي تولى المسؤولية الأولى في لبنان بين العامين 1982 و1986. تكشف وقائع موثّقة من أمين الجميّل لسلسلة اجتماعات طويلة عقدها مع حافظ الأسد في بداية العام 1986، بحضور عبدالحليم خدّام وفاروق الشرع وعبدالرؤوف الكسم، أن حافظ الأسد يفاوض من أجل التفاوض لا أكثر وأنّ همّه كان تمرير الاتفاق الثلاثي الذي توصلت إليه “القوات اللبنانية” ممثلة بإيلي حبيقة (حليف سوريا بعدما كان حليف إسرائيل) وحركة “أمل” الشيعية والحزب التقدّمي الاشتراكي الدرزي.
لم يكن ذلك الاتفاق سوى صيغة من أجل جعل لبنان تحت المظلّة السورية ولا شيء آخر غير ذلك. كان على أمين الجميّل إلغاء نفسه كرئيس للجمهورية اللبنانية من أجل أن يصبح مرضيا عنه في دمشق. صمد في وجه حافظ الأسد ودفع ثمن صموده من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه لبنانيا.
في السنة 2020، انتهت لعبة التذاكي التي وضع قواعدها حافظ الأسد والتي لم يستطع بشّار الأسد السير فيها إلى النهاية بعد سلسلة من الأخطاء المريعة التي ارتكبها منذ العام 2000 بسبب الحلف الذي أقامه مع إيران من دون أخذ في الاعتبار للنتائج التي يمكن أن تترتب على جرائم من نوع المشاركة في اغتيال رفيق الحريري، أو تغطيتها، على سبيل المثال وليس الحصر…
دخلت سوريا بعد دخول “قانون قيصر” حيّز التنفيذ مرحلة جديدة. لم يعد المطروح فيها هل يبقى النظام بمقدار من أنّ المطروح كيف ستتوزّع مناطق النفوذ فيها. كيف سيخرج الإيرانيون وأتباعهم وإلى أي حدّ ستتقدّم تركيا، وهل تصل منطقة نفوذها إلى محيط حماة، في وقت تبدو روسيا مهتمّة أكثر من أي وقت بالشريط الساحلي السوري وبدمشق ومحيطها.
تحصد سوريا للأسف الشديد ما زرعه النظام بعدما ارتضى بشّار الأسد أن يكون بحماية إيرانية وذلك منذ اليوم الأوّل الذي خلف فيه والده. إنّه ثمن باهظ يدفعه بلد كان مرشّحا أن يكون من أفضل بلدان المنطقة وأكثرها ازدهارا.
المؤسف أكثر أن المأساة السورية تنسحب على لبنان الذي لم يستطع الخروج بدوره من الوصاية الإيرانية فإذا به يصرّ على أن يتحوّل إلى بلد فقير ومفلس لا وجود فيه لقيادة سياسية تعرف شيئا لا عمّا يدور في المنطقة، بما في ذلك في الداخل السوري، ولا عمّا يدور في العالم…
نقلا عن صحيفة العرب