يواجه الإعلام السوري مرحلة مفصلية في تاريخه، تشابه إلى حد كبير تجارب دول مرت بتحولات جذرية، مثل رواندا في التسعينيات وإسبانيا بعد الحرب الأهلية، من حيث الانقسام الحاد بين مكونات المجتمع. ويتشابه مع تجربة البرتغال الإعلامية في السبعينات عندما تخلصت من الدكتاتور (استادونوفو) والذي كان يطبق النظرية السلطوية على الإعلام، ويلتقي مع الإعلام الألماني ببعض الجزئيات عندما انهار جدار برلين في وجود نظاميين للإعلام رأسمالي حر نوعًا ما في الغربية ونظام إعلامي شيوعي سلطوي في الشرقية، وإيرلندا خاضت حرب ذات بعد قومي وديني وسياسي شهد وصعود إعلام بديل منذ التسعينات يشابه الإعلام السوري المستقل.
أما تجربة سنغافورا الاقتصادية التي تكلم عنها وزير الخارجية أسعد الشيباني لسوريا رائعة في جزئية تسخير الإعلام ليكون أداة للتنمية الاقتصادية والتنمية المستدامة والسلم المجتمعي، وتميزت بالتطور ولكنها أقل تحرّرًا كانت مناسبة لسوريا لو كنا في ستينات القرن الماضي، وأفضل ما يمكن تطبيقه من التجربة السنغافورية الإعلامية هو التنظيم التشريعي والقانوني الصارم بالتعامل مع القضايا الحساسة والتي تهدد السلم المجتمعي.
لا يمكن تطبيق أي تجربة إعلامية دولية على الوضع بسوريا بسبب تفرد الشأن السوري فقطاع الصحافة المستقلة نما خارج سوريا وتطور في بلدان الاغتراب، البنى التحتية المتهالكة، تركة الإعلام السلطوي السابق الثقيلة والزاخرة بالفساد وخطاب الكراهية، المدرسة الصحفية التي بناها حزب البعث البائد والتي تتلمذ فيهات مئات الصحفيين، بالإضافة لتنامي الإعلام المجتمعي، زيادة المساحات الإعلامية والأخبار الزائفة والتفاهة، ظاهرة الأشخاص الذي يملكون وصول للجمهور دون هدف بناء، فقدان الثقة بالإعلام المحلي، تنوع خلفيات المؤسسات والقائمين عليها بالإضافة لمنافسة الإعلام الدولي وتأثيره، جميعها أسباب تجعل تطبيق نموذج دولي صعبًا، لذلك نحن بحاجة للمزج بين التجارب الدولية وابتكار خطة عمل تتناسب مع الواقع السوري، تساهم برفع الوعي وتكون رديفة لخطط البناء والتطور.
لهذا، فإن الحل يكمن في المزج بين التجارب الدولية وابتكار نموذج إعلامي سوري يتناسب مع احتياجات المرحلة، ويسهم في رفع الوعي، ويكون رديفًا لخطط إعادة البناء والتطوير.
خلال حكم النظام الديكتاتوري، كان الإعلام مجرد أداة دعاية حكومية، يتسم بغياب كامل لحرية التعبير، مع رقابة صارمة من الأجهزة الأمنية. ومن أبرز سمات هذا الإعلام هي السيطرة الحكومية الكاملة على جميع وسائل الإعلام، والترويج لسياسات النظام، بما في ذلك تبرير القمع والعنف، بالإضافة لوجود تعاون وثيق بين غالبية الصحفيين والأجهزة الأمنية.
أما تفشي الفساد في المؤسسات الإعلامية ووزارة الإعلام فهذا قصة أخرى، وارتفاع نسبة البطالة بين الصحفيين والإعلاميين الحكوميين بعد تقلص الدعم والتمويل.
أما الإعلام في شمال غرب سوريا على النقيض من إعلام النظام، فقد شهدت مناطق شمال غرب سوريا نظامًا إعلاميًّا أكثر تعددية ولامركزي، حيث برزت وسائل إعلام مستقلة وهيئات تنظيمية تحاول ضبط المشهد الإعلامي، ومنها رابطة الإعلاميين السوريين، ورابطة الصحفيين، وهيئة ميثاق شرف للإعلاميين السوريين، كما اتسم الإعلام في هذه المناطق بعدة جوانب إيجابية، منها وجود بيئة إعلامية أكثر حرية، رغم وجود بعض التحديات، بالإضافة للتنوع في المحتوى الإعلامي وشهد الإعلام المستقل هناك نمو سريع للإعلام المستقل، وازدياد خبرات العاملين فيه.
الواقع الحالي والتحديات الإعلامية في سوريا
تشهد الساحة الإعلامية السورية مجموعة معقدة من التحديات التي تعيق بناء إعلام حر ومستقل يخدم مصالح المجتمع ويساهم في التنمية الوطنية. يتجلى هذا الواقع في تداخل عدة عوامل تتراوح بين الإهمال المحلي والصراعات الداخلية والخارجية، مما يتطلب استراتيجيات إصلاح شاملة تعيد للقطاع دوره البنّاء.
يواجه الإعلام المركزي مشكلة جذرية تتمثل في إهماله للتمثيل المحلي؛ إذ لا يلبي احتياجات المحليات ولا يفهم تعقيدات المجتمعات والمناطق المختلفة. هذا التجاهل يعزز شعور المواطنين بالتهميش ويضعف صلتهم بالجهات الإعلامية، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في الوسائل التقليدية لنقل المعلومات.
على مستوى الثقة الدولية، كان الإعلام المستقل قد أثبت نجاحه وحقق مصداقية على المحافل الدولية، إلا أنه يواجه الآن تحديات كبيرة للعودة والمساهمة بفعالية في بناء سوريا. يُعزى ذلك إلى وجود نظامين متوازيين:
– النظام الأول: الإعلام الصحفي الأول المستقل الذي برع في التنظيم الذاتي واعتماد أدوات فعالة متقدمة على مستوى المنطقة العربية.
– النظام الثاني: النظام الإعلامي الذي كان يعمل بمقتضاه النظام البائد، والذي يمثل إرثًا ثقيلًا يصعب دمجه مع التجارب الحديثة. وهذا الانقسام يزيد من صعوبة خلق رؤية إعلامية موحدة تتناسب مع متطلبات الوضع الراهن.
تشكل حرية التعبير محورًا أساسيًّا لتجديد الإعلام، إلا أن الصحفيين والمجتمع يواجهون صعوبة في تقبُّل التنوع واختلاف الرأي. يظهر ذلك جليًّا من خلال الانقسام الفكري الكبير بين حاملي الثورة ومؤيدي النظام السابق، حيث تسود فكرة المظلومية على معظم الأطراف، مما يلوّن المحتوى الإعلامي بلون يبعده عن أهدافه في تحقيق التنمية والسلم الأهلي. كما أن ضعف إدراك أهمية السلم الأهلي والعدالة التصالحية لدى كثير من العاملين في القطاع يفاقم هذه المشكلة.
وما يزيد الأمر سوءًا هو اعتماد بعض وسائل الإعلام على دعم حكومي غير مسؤول أو على تمويل دولي مسيس في ظل نقص التمويل والاستدامة المالية للإعلام المستقل، وهجرة الصحفيين وفقدان البلاد لجزء كبير من الكوادر الإعلامية المحترفة.
يلعب الإعلام الخارجي دورًا مؤثرًا في تشكيل الساحة الإعلامية السورية، مما ينعكس على الهوية الإعلامية الوطنية. كما تواجه المؤسسات الحكومية تحديات كبيرة بسبب البنية التحتية الإعلامية المترهلة في المناطق الريفية مقارنةً بالحضرية، وتصاعد خطاب الكراهية العرقي والطائفي لدى بعض الشخصيات والوسائل الإعلامية
يواجه الصحفيون صعوبات جمّة في الوصول إلى المعلومات الدقيقة والصحيحة، بسبب غياب جهات قادرة على تقديم المعلومات وسوء البيئة القانونية التي تكفل حق الوصول إليها. يُضاعف ذلك مع غياب الاستقرار الأمني والأعمال القتالية المتبقية، مما يزيد من انتشار الأخبار المضللة والمزيفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت ساحة مفتوحة لنشر الشائعات.
الخلاصة وآفاق المستقبل
إن مئات الصحفيين والموظفين يواجهون خطر فقدان وظائفهم بسبب إغلاق المؤسسات أو بسبب تواطؤ بعضهم مع النظام السابق. كما أن الخلط بين النشاط السياسي والعمل الإعلامي يؤدي إلى فقدان الصحفيين لحيادهم وتأثير ذلك يظهر في موضوعية المحتوى المقدم.
يتعين على الجهات الحكومية المعنية تبني خطط إصلاحية شاملة تشمل إعادة النظر في الهيكل التنظيمي والإداري لوسائل الإعلام الحكومي، والإسراع بوضع تشريعات واضحة تضمن حرية التعبير وتكفل الوصول للمعلومات، ودفع الإعلام لينظم ذاته بعيدًا عن جبر السلطات وينحصر دور الحكومة بالرعاية والدعم والبعد عن التوجيه.
من خلال مواجهة هذه التحديات بشكل جدي ومتوازن، يمكن للإعلام السوري أن يتحول إلى أداة فاعلة في تعزيز التنمية وبناء مجتمع متماسك يقوم على أسس العدالة والشفافية.
رغم الصعوبات الكبيرة التي تواجه الإعلام السوري، فإنه يبقى أحد أهم الأدوات في إعادة بناء الدولة والمجتمع. فمن خلال إعلام حر ومسؤول، يمكن تعزيز الوعي، ومحاربة التضليل، ودعم عملية التنمية المستدامة. ومع سقوط الطاغية، سيكون الإعلام أمام فرصة تاريخية ليكون صوت الناس، وشريكًا في بناء سوريا الجديدة.