طوال قرون عرفت دمشق بأنها محج للساعي وراء تعلم أصل الفقه وقد كانت رموزها الكبيرة مقصداً لكل باحث،حيث جامعها الأموي، وعلماؤها، وأشياخها، وإن كل مسلم سمع حديث نبينا عليه الصلاة والسلام – عن فضل الشام وبركتها؛ فظلت على مر عصور مدينة العراقة والأصالة والالتزام فأهلها ما زالوا يتمسكون بقيمهم ودينهم حتى قريب العهد.
ولكن منذ سنوات كانت بالنسبة للملتزم المعادلة الصعبة، فمنذ استلام حزب البعث الحكم كان من الصعب جدا أن تظهر بمظهر طالب العلم والفقه حيث لاحقت مخابرات النظام كل من يرتاد مسجدا أو يظهر عليه علامات التمسك بالدين الإسلامي، وهنا تكون تهمة بالتطرف والتشدد، وكان للنظام رجال مهمتهم تمجيد الحكم إلى جانب خطبهم، وأصبحوا يسبحون بحمد النظام ،وهنا بات من الصعب جدا أن تردتاد مسجدا دون الرجوع إلى مرجعيتهم،سواء كنت رجلا أم فتاة فأي مسلك ستسلك بعيدا عن فروض الطاعة سترجم بتهمة إخواني سابقا وداعشي حالياً.
أزمة دمشق الأخلاقية في الازدحام!
في الآونة الأخيرة أصبحت مدينة دمشق تتصف بالفوضى والتزاحم، فكل قاطن فيها يعي المشكلة الكبيرة للتناحر صباحا ومساء على المواصلات، فقد باتت باصات دمشق معاناة يومية لاتنتهي للكل، فمنذ أن تطأ قدمك عتبة الباص ستبدأ بمعرفة أنك بالتأكيد لست من المحظوظين إلا لأنك وجدت أولاً باصاً يقلك حيث تقصد.
وستجد أن معنى الاحتشام سيولي في هذا المشهد البائس والمخزي لمجتمع محافظ، حيث تتلاصق أجساد الفتيات والشبان مع بعضها البعض، و لا يُشغِّل السائق الباص إلا بعد اكتظاظه حتى لايكون هناك منفذ حتى لأخذ نفَسك، وحتى تصبح أجساد الفتيات المتحجبات والشبان ملازمة بعضها البعض.
يقول الطالب الجامعي عمار ابن القابون: ” إن الازدحام يكون شديداً عند الصعود إلى الباص ويصبح هناك تدافع وكلٌ يعمل على مبدأ نفسي نفسي، بالإضافة إلى وجود نساء عند التدافع مما يعرضهن للاحتكاك مع الرجال، وكذلك تواجد فرص كبيرة لضعاف النفوس واللصوص، حيث يصعدون إليه فقط بغرض السرقة أثناء الازدحام الشديد، ولن تكتفي كمواطن عند هذا الحد بركوبك الباص الموعود، فالسائق يمتهن مهنة ثانية غير القيادة وهي النصب إذ أنه يقوم بأخذ 10 ليرات إضافة إلى ال40 ليرة وهي التسعيرة القانونية بحجة أنه لا يملك “فراطة”.
وقد اتخذ بعض الشبان مبدأ “أنا ومن بعدي الطوفان” حيث يتمكن من الجلوس على أحد كراسي الباص و يظل متشبثا به حتى إن رأى شيخاً كبيرا أو عجوزاً أو فتاةً ضاربا بنخوته وقيمه وما تربى عليه عرض الحائط ويترك كل هؤلاء واقفين على أقدامهم ويعانون كلما ضغط الشوفير على “فرام” الباص وهذا ما يتكرر بسبب ازدحام الشوارع النابع من كثرة الحواجز..!!
وتعتبر دمشق من أهم المدن الآمنة نسبيا والصالحة للسكن إضافة إلى حماه، واللاذقية، وطرطوس وهذا ما يحمِّلها عبء نزوح أهالي المناطق المتوترة إليها والنازحين إليها.
وهنا أصبحت في مقدمة المدن المكتظة والتي تكون قاعدة سهلة وجيدة لصيادي الفرص وتجار الحرب والأزمات، فالمواطن بات بين فكي كماشة من فقر وقلة حيلة، وبات سماسرة العقارات يزدادون طمعاً وجشعا، فالايجارات خيالية وتجعل الراغب في سكن كمن يبحث عن المستحيل.
وتبلغ قيمة إيجار المنزل وسطيا 50 ألف ليرة في الشهر وقد يطلب السمسار في أغلب الأحيان 100 ألف ليرة سورية، بالإضافة إلى طلب تأمين كهرباء وماء، وقد يطالب بدفع الأجرة لستة أشهر أو لسنة ووصل ببعضهم إلى طلب سنتين وثلاث، وهنا يقع النازحون بين أمرين أحلاهما مر بين واقع التشرد والبحث عن الأمان الذي لن يجدوه إلا بدفع مبالغ خيالية.
ومما يزيد قلب النازح هماً أن بعض مالكي العقارات أو ممن لديه منزلين وأكثر يتركون منازلهم فارغة، على أن تعيش فيه أسرة أتت من غير مدينة بلا مأوى، ويفترض المالك أن النازح سيتسبب له بمشاكل وتخريب وسرقة، في اتهامات مسبقة ومجحفة وتخلو من أقل جزء من الإنسانية.
وهنا نجد أن دمشق أصبحت مكونة بغالبيتها من فقراء كانوا في المدينة أصلاً لديهم أقرباء في الخارج يعينونهم ببعض المال شهرياً ليتكمنوا من العيش بأقل تكاليف ممكنة، ومهجرين ونازحين يفترشون الشوارع والحدائق للنوم والسكن ولا يملكون قوت يومهم .
كلنا أمل بأن يرجع أهل الشام إلى أخلاقهم وإنسانيتهم وأن تعود الأمور إلى نصابها ولو قليلا، فالحرب طغت على كل شيء يحمل قيمة وجعلت وطننا مقسما بين قوي وضعيف بين فريسة وصياد فرص، ويأمل كل مواطن سوري، أن تعود الرحمة لقلوب هجرتها لتكون دمشق كما هي معروفة بلد الأمن والخير والعطاء.
محمود الشامي ـ المركز الصحفي الوري