تمثل محادثات السلام بين الحكومة والمعارضة السورية في كازاخستان نصرا دبلوماسيا لداعميهما الدوليين، لكنها تكشف أيضا عن قصارى ما يمكن لروسيا وتركيا وإيران أن تحققه في جهودها لوضع نهاية للحرب المستمرة منذ حوالي ست سنوات.
وهذه هي المرة الأولى في تسعة أشهر التي يجلس فيها الجانبان معا، ولو لفترة وجيزة، وسط أجواء كئيبة، كما أنها المرة الأولى التي ترأس فيها موسكو وأنقرة وطهران مثل هذه المحادثات، مع اكتفاء الولايات المتحدة بالحضور كمراقب فقط.
وعقد المحادثات في حد ذاته نصر دبلوماسي يبرز تنامي تأثير الدول الثلاث في الشرق الأوسط، وتراجع نفوذ واشنطن، بينما يوطد الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب نفسه في الرئاسة.
وأشاد رئيس الوفد الروسي ألكسندر لافرينتييف بالمحادثات التي عقدت في أستانة، عاصمة كازاخستان، ووصفها بأنها “ميلاد” لصيغة تفاوض جديدة، وساد أمل بأنها قد تجعل من المرجح أن محادثات تتوسط فيها الأمم المتحدة قد تعقد في جنيف الشهر القادم.
وفي نهاية يومين اتسما بالفوضى، ساندت موسكو وأنقرة وطهران هدنة هشة جرى التوصل إليها في 30 كانون الأول/ ديسمبر بين الأطراف المتحاربة في سوريا، واتفقت على مراقبة الالتزام بها.
ومع ذلك، لم تسر المفاوضات حسب الخطة الموضوعة لها، وهو ما يظهر أن الوسطاء الثلاثة المفترضين في الصراع السوري -على اختلاف أساليبهم- لديهم جميعا مشاكل فيما يتعلق بالمصداقية. ويشير هذا إلى أنه يتعين عليهم إشراك واشنطن ودول الخليج العربية بصورة أكبر إذا أرادوا أن تكون لهم أي فرصة للتوسط في اتفاق نهائي.
وقد يكون ذلك صعبا مع تسليط المحادثات الضوء على الخلافات الحادة بين موسكو وطهران بشأن المشاركة المحتملة في المستقبل للولايات المتحدة على وجه الخصوص.
ونقلت وسائل الإعلام الحكومية في إيران عن مسؤولين إيرانيين قولهم إنهم لن يقبلوا بأي مشاركة للولايات المتحدة في المستقبل، في حين قال لافرينتييف المفاوض الروسي الرئيسي إن موسكو سترحب بانضمام واشنطن إلى العملية.
وقال دبلوماسي غربي: “بوسعهم (الروس) أن يروا الآن مدى صعوبة شركائهم”.
وأضاف الدبلوماسي أن موسكو لم تتمكن في جولات سابقة من محادثات الأمم المتحدة في جنيف من تحديد مسار الأحداث بالطريقة التي فعلتها في كازاخستان؛ لأن الولايات المتحدة والغرب كانا قد نجحا في تحجيم دورها. وهذه هي أول مرة تتذوق فيها موسكو ما يبدو أنه دور القيادة.
وسبق أن عبر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف عن أسفه لفشل المحادثات التي تساندها الأمم المتحدة في جنيف، واصفا إياها بأنها “جلسات عقيمة”. وأضفى لافرينتييف كبير المفاوضين الروس في أستانة بريقا إيجابيا على محادثات كازاخستان، لكنه لم يخف الصعوبات الدبلوماسية أيضا؛ إذ اشتكى في أوقات مختلفة من مدى صعوبة المناقشات.
واختلط المبعوثون الغربيون الذين حضروا بصفة غير رسمية لمراقبة التطورات من ردهات الفندق مع الصحفيين، في محاولة للتأكد من هدف الاجتماع. وكانت هناك تكهنات كثيرة بشأن ما إذا كانت روسيا تريد اجتماعا آخر للمتابعة يتناول تفاصيل ما كان في النهاية بيانا ختاميا غامضا.
وقال دبلوماسي: “بصراحة نحن في حيرة. لماذا الروس يفعلون هذا الآن؟ ما الذي تغير ليجعلهم يرغبون في فك الارتباط عسكريا والمشاركة سياسيا؟”
وتجمع مبعوثون غربيون في ردهة فندق ريكسوس، مقر انعقاد المحادثات، بينما كانت الثلوج تتساقط في الخارج، وأمكن سماعهم وهم يتحدثون بشأن “هل يجربون تناول طبق لحم الخيول المحلي في الحانة الأيرلندية بالفندق”، حيث ملأ دخان السجائر الأجواء.
وفي مرحلة من المراحل مساء الاثنين، بدأت وزارة خارجية كازاخستان البحث عن مرشدين؛ لأخذ فصائل المعارضة في جولة في مراكز محلية للتسوق، بعد إبلاغها فيما يبدو بأن المعارضة أرادت تصيد بعض الصفقات.
مشكلات تتعلق بالشرعية
وعودة إلى المحادثات، فقد شككت المعارضة ودبلوماسيون غربيون في دور إيران وحلفائها.
وقال محمد علوش، رئيس وفد المعارضة السورية، إن الروس انتقلوا من مرحلة كونهم طرفا في القتال، ويبذلون الآن جهودا كي يصبحوا أحد الضامنين، وهم يجدون عقبات كثيرة من جماعة حزب الله اللبنانية الشيعية وإيران والحكومة السورية.
وقال دبلوماسيون إنهم أيضا يرون إيران كإحدى العقبات الرئيسة أمام تحقيق تقدم، وقال أحدهم إن التزام طهران بشأن وقف إطلاق النار والانتقال السياسي غير مؤكد.
وقالت موسكو إنها سلمت المعارضة مسودة دستور جديد صاغه خبراء روس؛ بهدف التعجيل بالاتفاق على انتقال سياسي. غير أنه لم يتضح على الفور ما تضمنته الوثيقة أو رأي المعارضة فيها.
وأسفرت المحادثات عن بيان مشترك من روسيا وتركيا وإيران تعهد بتشكيل آلية مراقبة للإشراف على وقف إطلاق النار الهش في سوريا. لكن المعارضة لم تؤيده.
وقدمت المعارضة بدلا من ذلك اقتراحا منفصلا بخصوص وقف إطلاق النار، وشككت في شرعية إيران كوسيط، في وقت قالت فيه المعارضة إن فصائل إيرانية مسلحة تنتهك وقف إطلاق النار.
وشكا علوش من أن البيان الختامي يضفي الشرعية على ما تقوم به إيران من “إراقة للدماء” في سوريا، ولم يتناول دور الفصائل الشيعية المسلحة التي تقاتل المعارضة.
ولم تبد المعارضة -التي تمثلها للمرة الأولى شخصيات عسكرية وليس فقط شخصيات سياسية- أي بادرة على تخفيف مطلبها لتنحي الرئيس بشار الأسد في أقرب وقت ممكن، وهو ما لن تقبله دمشق.
ويرى بعضها أن وضع روسيا كوسيط غير ملائم.
وقال أسامة أبو زيد، المتحدث باسم المعارضة، إن المعارضة لديها مشكلة مع روسيا؛ لأن “طائراتها تشارك مع النظام في قتل شعبنا”. وأضاف أنه إذا انتهى هذا الدور فلن تكون هناك مشكلة للمعارضة مع روسيا.
ولوفد الحكومة السورية أيضا مشاكله الخاصة مع رعاة المحادثات، حيث شكك في شرعية تركيا كوسيط، في وقت قال إن أنقرة تنتهك فيه سيادة سوريا بتوغلها العسكري شمالي البلاد.
لا محادثات مباشرة
لم يتضمن أي وفد شخصيات بارزة، وكان حضور واشنطن بصفة مراقب فقط من خلال سفيرها هناك. ولم يحضر أي مبعوثين عرب، باستثناء مسؤول إماراتي واحد حضر بصفة غير رسمية.
وفي انتكاسة كبيرة أيضا، أخفقت موسكو في إقناع الطرفين بالتفاوض وجها لوجه، على الرغم من قول المفاوض الروسي لافرينتييف مسبقا إن المحادثات المباشرة هي “الهدف الرئيسي”.
وأحجمت المعارضة المسلحة عن ذلك، قائلة إنها لا يمكن أن تجلس مع الأشخاص المسؤولين عن إراقة كل هذا الدم. وبدلا من ذلك، اضطرت موسكو للاعتماد على محادثات غير مباشرة يقوم فيها الوفدان بتوجيه رسائل عبر وسطاء.
وقال بعض الدبلوماسيين إن المعارضة هي الطرف الذي رفض ذلك، لكن آخرين قالوا إن هناك مخاوف من أن يزيد بشار الجعفري -رئيس وفد الحكومة، المعروف بتعليقاته الفظة- من تعكير الأجواء، وهو ما يعطي المحادثات غير المباشرة فرصة أفضل للنجاح.
والخلاف دائر منذ البداية بشأن شكل المحادثات وجدول الأعمال.
فقد طالبت المعارضة بأن تركز المحادثات فقط على وقف لإطلاق النار ينبغي أن يلزم الفصائل المسلحة المدعومة من إيران بمغادرة سوريا.
لكن الحكومة -التي ازدادت جرأة؛ نظرا لأن المحادثات تعقد برعاية مشتركة من حليفتها القوية روسيا ومع تحول ميزان القوة على الأرض لصالحها- قالت إنه توجد فرصة للعمل من أجل مصالحة مع بقاء الأسد في السلطة، وهو خط أحمر بالنسبة للمعارضة.
وكشفت التصريحات الافتتاحية عن تلك الانقسامات.
فقد وصف علوش -رئيس وفد المعارضة- الحكومة السورية بأنها نظام دموي مستبد، بينما اتهم الجعفري الذي رأس وفد الحكومة مفاوضي المعارضة بالدفاع عن “جرائم حرب” والافتقار إلى المهنية.
وأوضح الجعفري أيضا أن هجوم الحكومة على وادي بردى -الذي يزود دمشق بأغلب إمداداتها من المياه- سيستمر حتى إذا اعتبرته المعارضة انتهاكا للهدنة.
وقال إن الهجوم سيتواصل ما دام سبعة ملايين شخص يسكنون دمشق محرومين من المياه.
وقال أندري كورتونوف، المدير العام للمجلس الروسي للشؤون الدولية، وهو مؤسسة بحثية معنية بالسياسة الخارجية مقرها موسكو ومقربة من وزارة الخارجية، إن المحادثات “أفضل من لا شيء”.
وأضاف في تصريح لرويترز: “لكن لا يوجد حل سحري”.
عربي21