محمود الوهب – العربي الجديد
في بداية عام 2011، وبدايات حالات التململ لدى الشعب السوري التي لم تكن قد ظهرت إلى العلن، قرأت أجهزة الأمن السورية هذه التململات بعمقٍ، وشمَّت روائحها ككلب بوليسي، وراحت تستنفر كل ما لديها من إمكانات، فالسلطة منتهى الغاية والهدف. ومن ذلك أنها توجهت إلى زعماء العشائر وتجار المخدرات والممنوعات كافة (لديها من سقطة المجتمع ونفاياته ما يكفي لتدمير أمة بأكملها)، طالبةً دعمهم ضد “المؤامرة الكونية” على “النظام الوطني” في سورية. كان جواب أحد زعماء آل برّي إلى رئيس فرع الأمن السياسي في حلب: “لسنا بحاجة لمن ينبهنا إلى واجبنا، فهذا النظام نظامنا، وحمايته حق علينا”. (وصل اثنان من آل برّي إلى مجلس الشعب السوري في الدور التشريعي السادس 1999/ 2003 مقابل أربعة عشر مليون ليرة سورية، ما يعادل آنذاك 300 ألف دولار).
وبالفعل، كانت أولى مساهمة هؤلاء، (قبل معركتهم مع الجيش الحر ومقتل رأس حربتهم زينو بري عام 2012 على يد جيش التوحيد)، مداهمتهم اعتصاماً سلمياً، قام به سبعة وعشرون طالب دراسات عليا من كلية الطب في حي العزيزية أمام نقابة الأطباء، إذ كان نصيب الطلاب ضرباً بالعصي والسكاكين. ولولا احتماؤهم بالنقابة، لذهب بعضهم ضحية وعيه السياسي وتفوقه العلمي.
أتيت بالمثال القريب هذا لأشير إلى أنَّ ظاهرة “التعفيش” هي الابن الشرعي للنظام السوري، فهي ملازمة له على مدى تاريخه. وإذا كانت هذه الظاهرة قديمةً، ترتبط بما كان يُعرف في
المجتمعات القبلية القديمة بالغزو، فردياً كان أم جماعياً، وجوهرها الحصول على الغنائم، فإن جيوش الإمبراطوريات الغابرة قد أوجدت له أنظمة وقوانين تأخذ بالحسبان قدرات المقاتل ومكانته في ترتيبات تلك الجيوش، حتى إن المقاتل كان يرتقي بناءً على كفاءته القتالية وبلائه في المعارك. لكن هذا الشكل انتفى في العصور الحديثة، إذ ارتقت الدولة بوظائفها، وصارت لها مؤسساتٌ تقوم على أسسٍ من الحقوق والواجبات، ترتب على كل من ينضوي تحت لوائها قواعد يتقيد بها تحقيقاً لمفهوم المواطنة المعاصر. وما عاد لأفراد الجيش من وظيفةٍ غير حماية الدولة في مقابل رواتب مجزية، ومكانة مرموقة، وثمّة خدمة وطنية طوعية هي مجال اعتزاز المواطن وفخره.
وقد أخذ الجيش مكانة خاصة بين مفردات الوطن تصل إلى مرحلة القداسة، فهو حامي حياض الوطن، وموفر الأمن والسلام لمواطنيه.. وذلك كله حين تكون الدولة قائمة بمفهومها المعاصر. أما حين تكون سلطة لجماعة ما، فالمعايير تختل، وتغيب القيم وأهمها القيم الوطنية والإنسانية على غير صعيد، ويفقد الجيش مكانته الرفيعة، فهو ليس جيشاً للشعب، وإنْ سمي بذلك، (معروفة تسمية الجيش السوري جيش الشعب منذ استيلاء حزب البعث على السلطة أوائل ستينيات القرن الماضي)، فما إن تحين فرصةٌ ما حتى تبرز هذه العداوة بأبشع صورها؟! فما عرف بـ “ظاهرة التعفيش” التي مارسها الجيش وأعوانه في معظم المدن السورية حلقة في سلسلة طويلة صدئة، تمتد إلى عام 1984، حين نوى رفعت الأسد تعفيش مدينة دمشق عاصمة بني أمية.
يورد وزير دفاع حافظ الأسد، العماد مصطفى طلاس، في مذكراته التي أخذت اسم “مرآة حياتي” شيئاً عن تهديد دمشق بالدمار والاستباحة خلال فترة الصراع الذي دار حول السلطة بين رفعت الأسد وأخيه حافظ لدى مرض الأخير عام 1984، وما شابَهُ من حوادث لها دلالاتٌ تشير إلى عقلية الضابط المعفِّش أملاك الشعب، والمعفَّش ضميراً وطنياً وأخلاقاً إنسانية، فيقول: “تقوم كتائب المدفعية (ب م ـ 21) بقصف دمشق عشوائياً لإرهاب السكان، وقطع أنفاس الناس، حتى يصبح أهل الشام مثل أهل بغداد أيام الحجّاج سابقاً، وأيام صدّام لاحقاً. (ما حدث في سورية تجاوز الاثنين معاً). بعد ذلك، تقوم مفارز المشاة من سرايا الدفاع (كتائب خاصة برفعت الأسد) بعملية نهب وسلب للمدينة المنكوبة، وقد أبلغ العميد رفعت الأسد ضبّاطه وجنوده أنّ المدينة ستكون لهم حلالاً زلالاً مدّة ثلاثة أيام بلياليها.. وبعدها لا يجوز أبداً أن يظلَّ فقير واحد في سرايا الدفاع، وإذا طلب أي جندي بعدها مساعدة أو إكرامية ستقطع يده..”.
وهنا لا بدَّ من التذكير بأنَّ صراع حافظ ورفعت جاء بعد إغراق مدينة حماة بالدم، واستباحتها بالكامل، وكذلك بعد الأفعال “التعفيشية” المشينة للجيش السوري فيها، وفي لبنان أيام كان مطلق اليد هناك (يحصد اليوم اللاجئون السوريون “عفش” تلك الأيام) ناهيكم بالمجازر التي حصلت بوجوده ضد الشعب الفلسطيني، وأدت إلى إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، وكان خروجها بدايةً للخراب الذي عمَّ ديار العرب والعروبة بعد عام 1967.
وفي متابعة رواية “مرآة حياتي” التي طبعت في بيروت، ومنعت في سورية طباعة وتوزيعاً، على الرغم من أنَّ مؤلفها يملك دار نشر مرموقة في دمشق، وعلى الرغم من أنَّ المذكرات تكيل المديح لحافظ الأسد في كل صفحةٍ من صفحاتها، لكنَّ الملاحظ أنَّ منع نشرها جاء من نثرياتها التي تكشف شيئاً عن شخصية الأسد، وجوهر سلطته القائمة على الولاء والفساد! يقول طلاس: “وفي حديثٍ هامسٍ لأبي دريد (رفعت الأسد) مع مستشاره السياسي محمد حيدر، وكانا يمشيان في ضوء القمر بمعسكرات القابون: “مو حرام، واأسفاه أن تهدم هذه المدينة الجميلة”، فيجيبه محمد حيدر: “والله صحيح حرام… وا أسفاه، ولكن شو طالع بأيدينا غير هيك”.
وواضحٌ أنَّ هذا الحديث بين الاثنين ما هو إلا نوع من المراوغة والكذب المضلل للعقل، وهو محاولةٌ لإيجاد نوعٍ من الوهم النفسي، يبرّر للمجرم ما سيأتي به من أفعالٍ يقوم بها جيش مهزوم أمام عدو بلاده الحقيقي.
وتذكر “مرآة حياتي” حادثةً أخرى، تشير إلى جذر ما قامت به أجهزة بشار الأسد الأمنية، منذ الأيام الأولى للاحتجاجات الشعبية من تهيئةٍ لما جرى، فيما بعد، من حالات التعفيش المخزية
لأملاك المواطنين السوريين في مدن حمص وحلب وداريا والقصير، وكان جديدها ومثالها الفاقع مخيم اليرموك وبلدة دوما، إذ يقول العماد طلاس: “في أوائل نيسان من العام 1984 وحوالي الساعة الرابعة بعد الظهر، تلقيت اتصالاً هاتفياً من قائد قواتنا في طرابلس، العميد سليمان حسن، أعلمني أنَّ علي عيد جهز مفرزة من اللصوص، قوامها حوالي مئتي عنصر مع عشرين سيارة متنوعة، وهم مسلحون ببنادق كلاشينكوف ومدافع مضادة للدروع (آر. ب. ج.7) وقنابل يدوية ومسدسات. وهناك اتفاقٌ ضمنيٌّ مع “أبو دريد”، يعني العميد رفعت الأسد، بأن هذه المجموعة سوف تشارك في نهب محلات المجوهرات، خاصة في دمشق، عندما تحين ساعة الصفر لاستباحة المدينة، ثم يهربون بالمسروقات إلى لبنان (طرابلس الشام)، وهناك تتم عملية الاقتسام”.
بالطبع، لم تكتمل العملية، إذ جرى تسفير رفعت الأسد وصحبه، ودفع معمر القذافي “الثوري الآخر” ملايين الدولارات التي جرى اقتسامها ما بينه وبين البنك المركزي السوري الذي كان مصفِّراً حتى من الفئران، على حدِّ تعبير العماد طلاس نفسه.
ما يُراد الوصول إليه هنا أنَّ عملية التعفيش المخزية ليست ظاهرة جديدة، بل قديمة ترتبط ببنية السلطة الفردية المطلقة وفسادها، وبأخلاقيتها وجبنها وهزائمها المتلاحقة التي أوصلت المواطن السوري إلى ما لا يُحسد عليه، إذ أخذ يفاضل اليوم بين سلطة “بلاده الوطنية” وسلطة المحتل الروسي التي تتظاهر بتوفير الأمن له، وكأنَّ لسان حال السوري اليوم هو قول الشاعر المتنبي: ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى/ عدواً له ما من صداقته بدُّ.