منذ قرابة الشهر صمدت الحكومة التركية المنتخبة في وجه انقلاب دموي مفاجئ من قبل فصيل متمرد في الجيش. في الأسابيع التي تلت الانقلاب، ترأس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عملية تطهير غير مسبوقة لمؤسسات الدولة والمجتمع المدني، حيث تم اعتقال واحتجاز الآلاف، في حين تم تعليق عمل أو طرد عشرات الآلاف من وظائفهم.
بالنسبة لحاكم غالبًا ما يتم تصويره باعتباره العاهل العثماني الجديد، يرى أردوغان حوله شبكة بيزنطية من المؤامرات والتهديدات. حيث تريد السلطات التركية من نظيراتها الأمريكية أن تسلم فتح الله غولن، وهو إمام تركي في السبعين من عمره، يعيش في الولايات المتحدة منذ عام 1999، ويقال إن غولن يدير حركة غامضة، حيث يرتبط بعض من أتباعه بالانقلاب الفاشل.
ولا يزال الغموض يكتنف كلًا من الانقلاب وحملة القمع التي تلته: حيث لا يزال دور غولن في كل هذا موضوع نقاش وتحقيق؛ فلم يتم بعد تقييم العواقب المروعة المستمرة للاعتقالات الجماعية وعقاب أتباع غولن المشتبه بهم.
لكن، وكما كتبت في الأسبوع الماضي أثناء وجودي في إسطنبول، من المهم أن نحاول أن نفهم الإحباط الواضح بين كثير من الأتراك من تصرفات الغرب في المنطقة وقصصه إزاء تركيا.
كان العديد ممن تحدثت إليهم أصيبوا بخيبة أمل بسبب ما اعتبروه استجابة صامتة من حلفاء تركيا الغربيين في الساعات الأولى بعد بدء الانقلاب. كانوا غاضبين من إقامة غولن المستمرة في الولايات المتحدة، وهو رجل شبهته وسائل الإعلام والمسؤولون الأتراك بأسامة بن لادن. وربما لسبب وجيه، كانوا يعتقدون أنه لو نجحت مؤامرة الانقلاب، فإن العديد من الحكومات الأجنبية ستشعر بالسلام بالوضع الجديد – بغض النظر عن الانقطاع العنيف للسياسة الديمقراطية في تركيا.
قدّم المستشار السابق للرئيس عبد الله غُل، يوسف موفت أوغلو ملخصًا دقيقًا لهذه المواقف:
كتب يوسف أوغلو في هافينغتون بوست: “اليوم، إلى حد كبير نتيجة لهذه اللامبالاة الغربية تجاه الانقلاب والجناة، وقدر أكبر بكثير من الاهتمام لأحداث أخرى، يعتقد الكثير من الناس في تركيا، بما في ذلك المعلّقون الذين ليس لديهم شيء يفعلونه مع نظريات المؤامرة، أن الناس في الغرب سيكونون راضين فيما لو نجح الانقلاب. حيث يسعى الأتراك إلى إقناع نظرائهم العالميين بشأن ما هو واضح للغاية بالنسبة لهم هنا في الداخل”.
جذور توجُّه أردوغان
إن جزءًا كبيرًا من التنافر له علاقة بكراهية الغرب تجاه أردوغان. فغالبًا ما يتلقى الرئيس التركي من منتقديه أوصافًا بأنه طاغية، وزعيم غوغائي استخدم قبضة الأغلبية في السلطة لتعزيز موقفه، وإخضاع وتخويف المعارضة، وإعادة تشكيل الجمهورية التركية في صورته – تلك الصورة التي نحو متزايد أبعدت تركيا عن مراسي العلمانية؛ باتجاه ماركة أردوغان في القومية المسلمة السنية.
هذا النظرة تجاه أردوغان ليست دقيقة. وهي أيضًا تحجب قوى أخرى عن المشهد.
فاز أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، وهو حزب اليمين القومي الديني الوسطي باستمرار في الانتخابات الحرة والنزيهة على مدى العقد والنصف الماضي. حيث قادوا واحدة من أطول فترات الحكم المدني المستقر والديمقراطي في البلاد. وحتى استئناف القتال مع الانفصاليين في السنوات الأخيرة، أحدثوا فرصة ملائمة للأقلية الكردية المقموعة منذ فترة طويلة.
لهذه الأسباب، يعتبر أردوغان وحلفاءه أنفسهم ديمقراطيين وتعدديين حقيقيين في البلاد، مقاومين بذلك عقودًا من العلمانية الخانقة وشبه الاستبدادية التي منعت النساء من ارتداء الحجاب في الجامعات الحكومية، وحرمت الأكراد من الكتابة والتحدث بلغتهم.
نصّب أردوغان في الماضي نفسه بأنه وريث عدنان مندريس، رئيس الوزراء الذي أطيح به في انقلاب عام 1960، وبعد ذلك تم شنقه من قبل المجلس العسكري. مثل أردوغان، أمر مندريس بدعم الطبقات الدينية العاملة والطبقات الأكثر فقرًا في البلاد. وعلى الرغم من أن موقفه من الخارج يبدو منيعًا، بالفعل يبدو أردوغان باتجاه مزيد من التوسع في الصلاحيات – لكنه قلق من أن يتعرض لنفس المصير.
شهدت تركيا انقلابات عسكرية متعددة ومحاولات انقلاب على مدى نصف القرن الماضي. في الحملة الانتخابية وفي كلامه أمام العامة، يحذر أردوغان من القوى المناهضة للديمقراطية التي تعمل ضد حكمه – مكائد “الدولة العميقة” – بالإضافة إلى المؤامرات الخارجية. حيث أصبح العديد من المراقبين في الخارج معتادين على سياسة الترويع، حيث يعتبروها واحدة من أكثر الجوانب البغيضة في خطاب الزعيم التركي.
ولكن كما أثبتت أحداث الشهر الماضي، كان هناك بعض المبررات لمخاوف أردوغان. ومن هنا، لا تزال الديمقراطية في تركيا قيد تجربة، ولا تزال هشة وفي خطر انتكاسة خطيرة.
يكتب ثاناسيس كامبانيس، وهو زميل في مؤسسة القرن: “في هذه المنطقة التي لا تنبت مطلقًا أي تجارب مع الديمقراطية أو الحكم الخاضع للمساءلة، لا تزال تركيا تتمسك بعملية فوضوية وغير مستقرة من الانتقال من الدكتاتورية العسكرية الفقيرة إلى الديمقراطية الحديثة النامية”.
قد يبدو أردوغان وكأنه ديمقراطي إشكالي للكثيرين في الغرب. ولكن حتى نزعته السلطوية محببة للعديد من الأتراك من أيام الانقلابات العسكرية القديمة السيئة. حيث تمت إعادة مشهد الاحتجاجات الجماهيرية المدافعة عن الحكومة التركية المنتخبة مرارًا وتكرارًا على شاشات التلفزيون التركي لسبب وجيه.
ليس الأمر فقط إسلاميين مقابل علمانيين
افتراض كسول آخر نوعا مًا حول التداعيات السياسية في تركيا هو أننا نشهد منافسة بين إسلاميي أردوغان وحزبه الحاكم وبين الآراء العلمانية لمؤسسة الجيش في البلاد والمدن الساحلية العالمية. هذا الانقسام موجود بالفعل، ولكنه لا يكاد بالموضوع الملح.
حتى إذا اخترنا استبعاد تورط غولن المباشر في مؤامرة الانقلاب، فإنه ليس سرًا أن أردوغان وحزب العدالة والتنمية يكونون في حرب مفتوحة مع أتباع غولن العاملين ضمن البيروقراطية في البلاد – ضمن القضاء في البلاد، ومراكز الشرطة والجيش – منذ عام 2013. وقبل ذلك ، كما شرحنا بالتفصيل في وقت سابق، كان المعسكران الإسلاميان يعملان بطريقة ترادفية لتهميش العناصر الأخرى الأكثر علمانية في الدولة.
وكتب رجب سويلو، وهو صحفي في صحيفة ديلي صباح: “من المهم أن نفهم أن غولن خلق أعداء عبر الأجنحة السياسية”.
جرت المظاهرات الوطنية المناهضة للانقلاب ليلًا منذ محاولة انقلاب 15 تموز/ يوليو لأنصار أردوغان الكُثُر، ولكن أيضًا شارك فيها أتراك من أجزاء أخرى من الطيف السياسي. وشملت هذه المظاهرات العلمانيين الأتراك والقوميين وحتى عدد قليل من الليبراليين.
وصف الكاتب مصطفى أكيول في المونيتور نسبة الإقبال على مسيرة حاشدة في إسطنبول يوم الأحد بقوله:
من المحتمل أن أنصار أردوغان كانوا أكبر فئة. هناك الكثير من النساء غير المحجبات كما كان هناك الكثير من النساء المحجبات، وانضم إلى الإسلاميين نجوم البوب، والمشاهير، والممثلون والممثلات، وحتى الحاخام الأكبر في تركيا. وكانت سائل الإعلام العلمانية داعمة مثلها مثل وسائل الاعلام الإسلامية. كما خرجت الصحيفة شديدة العلمانية “سوزجو” التي غالبًا ما تكون معارضة لأردوغان في اليوم التالي بعنوان ضخم داعمًا للمظاهرات: “أمة واحدة، علم واحد”.
الواقع في تركيا هو: ليس كل العلمانيين ليبراليين (متحررين) وليس كل الليبراليين (المتحررين) علمانيين. وأردوغان غير مستعد لعقد تحالفات مع من هم أقل حماسًا دينيًا منه. في أعقاب محاولة الانقلاب، جنح أردوغان إلى مزيد من الخطوات باتجاه القوميين المتطرفين على اليمين المتطرف في السياسة التركية.
يبدو أن الخاسرين وسط التطهير المستمر- بصرف النظر عن حركة غولن، وبعض الصحفيين وغيرهم وقعوا في مصيدة بعيدة المدى- هم الأكراد. وكان الحزب الديمقراطي الموالي للأكراد الكتلة السياسية الرئيسية الوحيدة التي بقيت خارج حسابات أردوغان في الوحدة الوطنية.
لا تزال تركيا بحاجة إلى أوروبا والغرب
وصفت محادثة أردوغان هذا الأسبوع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنها أول زيارة خارجية للزعيم التركي في أعقاب محاولة الانقلاب وتوبيخ غاضب من الغرب. ولكن تلك ربما أشياء مبالغ فيها.
على الرغم من أن المسؤولين الأتراك ليسوا بسعادة غامرة إزاء افتقار الدعم من الحكومات الغربية بعد 15 تموز، فقد تم التخطيط للاجتماع في موسكو قبل محاولة الانقلاب الفاشلة، وهو جزء من التقارب بين خصمين جيوسياسيين في صراعات الشرق الأوسط.
ولكن مع كل التهديد الخطابي، ما زالت تركيا في عهد أردوغان بحتاج إلى علاقة صحية مع الولايات المتحدة وأوروبا – الاتحاد الأوروبي كونه أكبر شريك تجاري لتركيا. حيث يقول مسؤولون غربيون أن لقاءاتهم مع نظرائهم الأتراك ودية ومنتجة إلى حد كبير، وأن تركيا لا تزال صديقًا وحليفًا قويًا.
قال المحلل التركي سليم سازوك في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست في إسطنبول “فكر بتركيا باعتبارها البخيل على مائدة العشاء العائلية”. المشكلة هي أن اللامبالاة والشكوك المتزايدة في الخارج قد تؤججان نيران القومية المتطرفة داخل تركيا.
كما كتب أكيول “هذا هو السبب في أن تركيا بحاجة إلى أصدقاء عقلاء في هذه المرحلة الحرجة للغاية – الأصدقاء الذين سيتفهمون خطورة التهديد الذي تواجهه البلاد، ولكنهم سيحثون أيضًا على احترام سيادة القانون. ومن هنا، يمكن للحكومات الغربية والمؤسسات والمنظمات وسائل الإعلام أن تلعب دورًا حاسمًا، ولكن فقط لو بدأوا في فهم ويجري بالفعل”.
ترك برس