ليست هذه برسالة استقالة من جلالة الكتابة أو من هواجس الطيران، ولا هي اقتراف لسقوط حرّ نحو فوهة كاتم للصوت. إنها ببساطة وقفةُ استحقاق بين أيديكم، أهلي السوريين، أيديكم المدمّاة بوجعِ العالقِ بين فكّي ذئبٍ مهووسٍ برائحة قهركم الفائح على سديم القارّات.
القليلُ منكم يعرفُ أنني عبَرتُ إلى ضوضاءِ ثرثرةِ السياسة من صومعةِ رسولية الشِعر، وأنني ألقيتُ بقصائدي كلّها عروساً للنيل، تيمّناً بأجدادنا بالرضاع الفراعنة، قرباناً لخروجكم الكبير. والقليل منكم يعرف أنني طرقتُ أبواب الجان والحكماء والقضاة والسَحَرة بحثاً عن فدية أو تعويذة أفكّ بها عنق دمشق المشدود إلى حبل مشنقة الطاغية، فاقتربت من الحقيقة حيناً، وغافلتني السياسات أحياناً. والقليل يعرف أني عضضت على أشواك الوشايات تغزُّ في عظمي من كل عابر ثورة أو قاطع طريق من أجل أن يَكتبَ ماء وردِ دمِكم صحيفةً جديدةً من معلّقات الشام. والقليل منكم يعرف أنني ما راهنت يوماً إلا على نواصي صبركم النبيل منذ أول ظفرٍ سقط في سجون درعا إلى آخر طلقة صوّبها حراس الحدود إلى رئة أمّ تحاول تهريب أحلام أطفالها، وانتهاءً بأحجار طمرت اخضرار إدلب في عينيّ الشهيد خالد العيسى. القليل يعرف أنني قايضتُ مفردات البهجة، وصخب الأصدقاء، بسهرة سمر واحدة فوق العشب النابت على أرضية خيامكم، وباستضاءةٍ من خطّ النار ترسمه بنادقكم.
فإذا كنتُ قد تهتُ لبعض الوقت في دروب الذئب السياسية فإن «ليلى» لم يتمكّن منها تعبٌ ولا وجل ولا هزيمة، وإنني لو ضللتُ خارطة الطريق إلى دمشق وقد غادرتها ملاحقةً بقرون استشعار الأمن، ودبَّة قدم السجان الثقيلة من خلفي، فإنني أناوب على استعادتها، أصبى وأجمل وأشفى، في حوزات «ولادة» الشعرية، وتحت أقواس جامع قرطبة وأنين نواقيسه، وفي فواتح الماء من محيط قصر الحمراء حيث مراقد أجدادي الأمويين الأبلغ حياةً من الحياة نفسها. وأقول إنه إذ غُدر في غفلةٍ برصاص بنادقكم، وبغطاء رأس نسائكم، فإن الملحمة السورّية تمكّنت من شقّ البحر على قارب شبه مقلوب شبه عائم، وبلّغت البشرية رسالتَكم المحشوّة في قارورة عطر جريح من سوق العطّارين الحلبيّ.
تلك الرجفة الشعرية التي علقتها في كيس من كتّان قديم إلى سقيفة ذاكرتي لسنوات خمس خلت، وانصرفت لأحفر بأظافري أصواتكم وأسماءكم وبرد أطفالكم على جدران المحافل الكبرى والمقار الرسمية وأعمدة الأمم ولوائح أصحاب الأمر، تلك الرجفة ذات الكيمياء المعقدة، والأكثر نفاذاً في رئة مستبدّ بعين واحدة وساق من خشب، من رصاصة، رجفة تسترجع كبرياء الكلمات التي طأطأتْ رأسَها داخل غرف الثرثرة في محافل جنيف، وعلى موائد سفراء دول «أصدقاء سورية» العامرة بما لذّ وطاب من مكائد وزواريبَ ضاعت فيها صرخة طفل سوري يفتّش عن لعبة لا تنفجر بين يديه، وعن لقاح ضد الشلل لا يعطّل جهازه العصبي، وعن باحة مدرسة نظيفة لا تنهار حجارتها على قطن طفولته.
هكذا أستعيد رجفة قصيدتي وأرسلها ترف فوق دمكم المرشوش على تراب كروم دوما المسترسلة في تشييع قتلاها. هكذا أستعيد مسقط الرأس حيث كل دراويش مقام الشيخ محيي الدين بن عربي تدور حول أوراقي المنثورة فوق مخمل الضريح، وحيث أميمة غادرت غيمة البركة، تقرأ في حضرة الجليل بعينيها الزرقاوين النادرتين من مصحفها المذهب، كعادتها في صباح كل يوم جمعة دمشقي، سورة الشعراء.
وفي ساعة متأخرة من آناء الليل وأطراف حربكم التي هي حربي التي لا تلين، أعترف أن الرجل الوحيد الذي عشقته كان مدينةً اسمها دمشق. وأن عشقي لدمشق جعلني أنسحبُ من أكثر المدن جمالاً وقوة وترفاً لأختبئ في سطر شعري واحد أكتبه على جناح حمامة شامية تنقر قمحكم من كفي المغموسين في صلصال لغتي أشكّلها تمثالاً بين مآذنها التي ارتفعت على تراكم ديانات البشرية منذ الحَجَر الأول لمعبد جوبيتير. وأن عشقي لدمشق مكّنني من امتلاك الوصفة السرّية لإكسير الصبا، ولمواقيت اجتماع الإنس والجن في كرة الدهشة الزجاجية. وأن عشقي لدمشق، على عميق جرحه، قد تتكفّل به شمعةٌ برقت أمس في كنيسة يوحنا المعمدان أشعلها باسمي صديقٌ ما زال بإمكانه عبور أسوار المدينة المرعوبة من سيارات الأمن ومفخّخات حرّاس جهنم، وباقة بنفسج بيروتيّ نشرَها على قبر أمي المختبئ بين العشب المسقيّ لمراقد الشوام في «باب الصغير». وأن عشقي لدمشق أعانني على جرّ صليبكم المثقل بآلام القيامة مخترقةً به حاجز الصوت إلى مساحة النعمة من عرائش تحوط بهيبة «مئذنة العروس» من الجامع الأمويّ الكبير.
اليوم وقد وزّعَتْ سورية شهداءها على كل الأضرحة، وتهاوتْ المدنُ على أحشائها المفجورة تتعجّل قدراً قدّره جبابرةٌ جاؤوا من ما وراء البحر وآخرون حاقدون من أهل الجوار وبعضٌ من باعةِ موتٍ جوّالين، اليوم إثر خروج لعبة البارود عن قواعدها، وحَشْر السياسة في مضائق لا مصبّ لها، واعتلاء دعاة صنّاع السلام الرسميين المنصّات بأقدام حافية وربطة عنق حمراء… اليوم أتجرّأ على كتابة عودتي مدينةً وصلتُها قبلَ الحبّ، وغادرتُها بعد أن سقطت في ماء بُرْكته مغشيّاً عليّ.
القدس العربي – مرح البقاعي