مضت مئة عام على خرائط اتفاقية سايكس- بيكو التي قسمت تركة الدولة العثمانية في السادس عشر من مايو عام 1916. فقسمت الاتفاقية الأقاليم العثمانية بين بريطانيا وفرنسا ضمن موافقة وتفاهم مع روسيا التي كانت تحت حكم القياصرة. واليوم عاد الحديث عن اتفاقية سايكس- بيكو ليس فقط تزامناً مع مرور مئة عام عليها، بل للحديث عن مدى التغييرات المتوقعة على خرائط الشرق الأوسط بالحديث عن سايكس- بيكو جديدة بدأت تظهر معالمها عن طريق دول وتنظيمات تعبث بخريطة المنطقة العربية لتنشأ دول جديدة على أنقاض الحروب والانهيارات التي تعصف بأنظمتها ودولها وجيوشها، فهل يمكن الحديث عن خرائط تتشكل ودول تضمحل؟!
في الحقيقة ليست المرة الأولى التي يتم الحديث فيها عن حدود وكيانات مصطنعة إذ طالما طرحت أدبيات الفكر القومي مقولات “الوطن العربي” و”الدولة القومية” و”الحدود المصطنعة”، وظلت الأطروحات القومية رغم فشل تجارب الوحدة الاختيارية كالوحدة المصرية السورية، وهي طرح يخالف الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس- بيكو، والاتفاقيات اللاحقة التي رسمت الحدود السياسية بين الدول العربية، فظلت الحدود السياسية قائمة بعد مئة عام على الاتفاقية الشهيرة، ولم تعد الاتفاقية إشكالية سواء لترسيخها أقاليم معينة أو لإقرارها دولاً بحدود اصطناعية، فلطالما كانت هذه الحدود هي الحدود المتعارف عليها والمعتمدة دولياً، وبالتالي فإن الحديث عن خريطة جديدة للشرق الأوسط من شأنه أن يخلق حالة صراع سياسي مستمر وحروباً عسكرية ما من شأنه أن يقضي على الدول الوطنية التي تأسست بعد رحيل الاستعمار، واستمرت في الوجود على رغم التغييرات السياسية الحادة أحياناً في نظمها، وعليه فإن تزايد الحديث إعلامياً عن انتهاء اتفاقية سايكس- بيكو يلقي بظلال من الشك حول الأطراف التي من مصلحتها إعادة خلق خرائط جديدة في المنطقة.
بعد مئة عام تبدو خرائط المنطقة العربية صامدة على رغم أنها مهترئة سياسياً في عدد متزايد من الدول، فولادة إدارة إقليم كردستان العراق تلت حرب الخليج في عام 1992، وكان بداية علامات انهيار الحدود السياسية وصولًا اليوم إلى انتظار ساعة الصفر الكردية لاحتمال إعلان “الدولة الكردية” في شمال العراق وسوريا ما ستنعكس تأثيراته على كل الأقاليم المحيطة بما في ذلك تركيا. أما تنظيم “داعش” فقد طرح مشروعاً لتغيير خريطة سايكس- بيكو من خلال إنشاء ما سماه “دولة الخلافة” الموهومة على امتداد ثلاث قارات، آسيا وأفريقيا وأوروبا، ليبدأ بتأسيس “دولة الخلافة” المزعومة انطلاقاً من العراق وسوريا. هذا على رغم أن العبث بخريطة المنطقة من قبل “داعش” وإن طال سيبقى مؤقتاً ومحكوماً بمدى قدرة التنظيم على البقاء ومحاربة دول التحالف ومقاتلة التنظيمات الشيعية والسنية والكردية في العراق وسوريا، إلا أنه سينعكس على الخريطة الداخلية لسوريا والعراق حتى لو ظل كيانهما موحداً.
إن تخطي مرحلة سايكس- بيكو لن يكون برسم خرائط جديدة ترسخ فتن نزاعات الشرق الأوسط، فالحدود الجديدة ستخلق أوضاعاً جديدة: دول طائفية شيعية أو سنية، دولة للإثنية الكردية، وأخرى عربية، وستتفتت الدولة العصرية إلى دول بعناصرها الأولية لتعيد دول الشرق الأوسط إلى مرحلة تسبق إنشاء الدولة الوطنية التي تصهر كل المكونات الإثنية والعرقية والطائفية في وطن واحد وولاء واحد. إن تخطي سايكس- بيكو لن يكون إلا بتأسيس وعي سياسي يتجاوز عنصرية الأفكار القومية أو الطائفية أو الإثنية إلى فكر يؤسس لعلاقات من التعاون والتكامل بين الدول ويصهر مكونات الشعب تحت راية واحدة. الإصلاحات السياسية والتصالح بين الشعوب والحكومات هو الحل الوحيد لإغلاق الفراغات المدمرة في الخرائط المذهبية والطائفية والعرقية للمنطقة ولحماية الخرائط السياسية من التآكل المستمر.
الاتحاد