الذهول الكثيف الذي رانَ على الطفل عمران هو العنوان الأبرز للمأساة السورية في أكثر وجوهها فظاعة: دم يسيل من وجه الفتى ذي الخمس سنوات، والغبار يلفّع ملامحه وثيابه الممزّقة، يجلس إلى كرسيّ في سيارة الإسعاف، فيتذكر دماً يسيل من جبهته، يمسحه بيده الصغيرة، ثم ينظر إليه بلا انفعال ويعود يمسح يده بالكرسي الجلدي، من دون أي ردّ فعل يمكن أن يصدر عن طفل في عمره خارجٍ من قلب بناية في حلب دمرتها مقاتلات نظام بشار الأسد وحلفائه.
يتقدّم عمران ليكون عنواناً رئيسياً في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي التي عرضت الفيديو القصير للطفل، وشاهده الملايين فانفعل بعضهم، وربما بكى بعض آخر، كما فعلوا لحظة قذفت المياه التركية اللاجئ الكردي إيلان، أو حينما شاهدوا الطفل جمال الأشقر غافياً، إلى الأبد، في شوارع حلب.
الطفل عمران لم ينفعل. من انفعل هو الطرف الآخر الشريك بقصد أو من دون قصد في إدامة مأساة عمران وأقرانه في هذه الحرب الدمويّة التي حصدت، بحسب إحصائيات غير رسمية، أكثر من 17 ألف طفل دون السادسة عشرة غالبيتهم من حلب، فيما هُجّر أكثر من مليون طفل في كارثة إنسانية حصدت أرواح أكثر من ربع مليون سوري، غالبيتهم من المدنيين، فضلاً عن نزوح 7.6 مليون داخلياً، ولجوء 4.2 مليون شخص إلى دول الجوار، وفقاً لمنظمة «هيومن رايتس ووتش».
ولعلّ التعليق الطافح بالإنشاء واللغو الذي قدّمته واشنطن باعتبار أنّ عمران يمثّل «الوجه الحقيقي للحرب»، يؤكد استقالة المجتمع الدولي من مسؤوليته الأخلاقية. فما القيمة الإضافية للكلام المرسل الذي نطق به المتحدث باسم الخارجية جون كيربي: «هذا الفتى الصغير لم يعرف يوماً في حياته إلا الحرب، والموت والدمار والفقر في بلاده»؟!
ولو أنّ عمران سمع كلام كيربي لاستولى الذهول على ما تبقى من ملامحه، وربما غصّ حلقــــه بالدمع المطحون بالغبار والدم والأسى على عالم منافــــق يتباكى على الضحايا السوريين ويمعــــن، فـــي الوقت نفسه، في تأجيج الحـــرب حتى آخر ضحية. وكانت معبّرة وتلقائية الصورة التي صاغها ناشطون حينما قدّموا، من خلال «الفوتوشوب» لقطة لحوار بين أوباما وبوتين وبينهما صورة الفتى الذاهل عمران.
المأساة الحقيقية في المحرقة السورية المتعاظمة أنّ العالم أو ما يسمى «الضمير الدولي» في حاجة كلَّ حين إلى إيلان أو عمران أو جمــــال، لكي يذكّرهــــــم بأن الجحيم هناك، في قلب المتوسط، حيت يُحزّ عنقُ الإنسانية من الوريد إلى الوريد كلّ يوم، فالسبعة عشر ألف طفـــل الذين زادت أعدادهم مع كتابة هذه السطور أو قراءتها، لهم حكاية ومأساة، لكنّ الكاميرا أغمضت عيونها عنهم، لكثافة الموت، وعجز الشهود عن ملاحقة كل هذه الفظاعة التي تصنع «الآكشن» الذي تحتاجه واشنطن وموسكو، وتعتصم به الصحف العالمية يوماً أو يومين، معلّقــة ومحلّلة، ثم تعود إلى شغفها الأهم المتصل بمأساة قطة علقت في محرّك شاحنة، أو اضطراب فقمة بسبب فجاجة بطريق أهان مشاعرها!
وربما حدس المعارضون السوريون الأوائل، مطلع الثورة، بما تخبئه لهم الأيام السوداء، فأطلقوا صراخهم الفطريّ «ما إلنا غيرك يا الله»، وربما ظنوا مبكّراً أنّ العالم، كلَّ العالم، سيتخلّى عنهم، ويتركهم في مواجهة أقدارهم، عرايا من كلّ شيء، حتى من إيمانهم الذي مزّقته الطائرات، والبراميل المتفجّرة، والتضامن الموسميّ العابر، وانفضاض تحالفاتهم وانفراط عقد معارضتهم الذي غدت، في جُلّها، معارضات وأحجاراً على رقعة شطرنج يحرّكها سدنة الموت والتحالفات الاستراتيجية، وتجّار الحروب!
الحياة اللندنية