انتهت الانتخابات الرئاسية الأميركية. ليس لدى المرشح الجمهوري دونالد ترامب أي أمل عملياً بالفوز. فإذا لم تستجدّ ظروف غير متوقعة على الإطلاق وبعيدة الاحتمال إلى أقصى الحدود، ستكون هيلاري كلينتون رئيسة الولايات المتحدة العتيدة.
وفقاً للحكمة السائدة، من السخافة، لا بل من الخطورة ربما، قول مثل هذا الكلام. الاعتراض الأساسي أنه قبل 11 أسبوعاً من موعد الانتخابات، يمكن أن تؤدّي أمور كثيرة إلى تحوّل مفاجئ في المشهد السياسي، ولا يمكن تالياً إطلاق تصريحات جازمة في هذه المرحلة. وبحسب هذا الرأي أيضاً، سوف تمنح المناظرات وسواها من الفرص الاستراتيجية ترامب حظوظاً عدّة لتصحيح صورته والتغلّب على كلينتون في نهاية المطاف.
لو كان التركيز حصراً على التصويت الشعبي، لكان هذا الأمر ممكناً، مع أنه سيبقى هناك أساس قوي للاستنتاج بأن نتيجة الانتخابات قد حُسِمت عملياً. في هذه المرحلة من السباق، تكون الاستطلاعات دقيقة، ونادراً ما تولّد نتائج غير صحيحة إلى حد كبير من النوع الذي يؤدّي إلى فوز ترامب في نهاية المطاف. تُظهر كل الاستطلاعات تقريباً تقدّم كلينتون على الصعيد الوطني، وفي كل الولايات الحاسمة الأساسية، وحتى في العديد من الولايات المعروفة تقليدياً بدعمها الراسخ للجمهوريين.
من الممكن أن تؤدّي مجموعة عوامل إلى تحوُّل مجموع التصويت الشعبي الوطني في اتجاه ترامب. لكن الانتخابات الرئاسية الأميركية لا تُقرَّر بهذه الطريقة، بل تستند إلى منظومة المجمّع الانتخابي التي تقوم إلى حد كبير على مبدأ “الفائز يحصل على كل شيء”. إذا كان لولاية معيّنة 12 صوتاً في المجمع الانتخابي بالاستناد إلى عدد سكانها، فالمرشح الذي يفوز في تلك الولاية، ولو بفارق ضئيل جداً، يحصد جميع الأصوات الاثنَي عشر.
يعني ذلك أن الأكثريات على مستوى التصويت الشعبي الوطني ليست حاسمة. السؤال المطروح هو مَن يستطيع الحصول على عدد الأصوات المطلوب في المجمع الانتخابي، أي 270 صوتاً، للفوز في الانتخابات بحسب توزيع الولايات. تشهد خريطة المجمّع الانتخابي تحوّلاً لمصلحة الديموقراطيين في الأعوام الأخيرة. فضلاً عن ذلك، ألحقت حملة ترامب الغريبة الأذى به في الولايات حيث هو بأمس الحاجة إلى الفوز: الولايات الحاسمة الأساسية.
الحسابات واضحة وكارثية بالنسبة إليه. تتّفق الحملتان برصانة على أن ترامب بحاجة إلى تحقيق فوز كاسح في الولايات الحاسمة الأربع: بنسلفانيا وأوهايو وفلوريدا وكارولينا الشمالية. فكلتاهما تجمعان على أنه إذا خسر، حتى في ولاية واحدة، سيخسر حكماً الانتخابات.
تتقدّم كلينتون بوضوح أو بفارق كبير في هذه الولايات الأربع، والمفاجئ أنها تحقق التعادل مع ترامب في العديد من الولايات ذات الولاء الراسخ للجمهوريين تقليدياً، بما فيها جورجيا وكارولينا الجنوبية. لا يحصل ترامب على الدعم نفسه الذي حظي به ميت رومني قبل أربعة أعوام في صفوف الرجال البيض (في الواقع، يبدو أن هذا الدعم يُفلت من يدَيه)، والأرقام التي يحققها في أوساط الأقليات والنساء كارثية.
من الصعب جداً أن نتخيل أنه قادر على الفوز في الولايات الأربع من دون استثناء، نظراً إلى ما يبدو عليه السباق قبل 11 أسبوعاً من الانتخابات (مع الإشارة إلى أن بعض التصويت الغيابي الذي يُحتمَل أن يكون له تأثير مهم، يبدأ في أيلول). لو كانت كلينتون مضطرة إلى الفوز في الولايات الأربع، لكانت حملتها على الأرجح تشعر بتوتر شديد. مع ذلك، يمكنها تحقيق الفوز في الولايات الأربع، ولديها فرصة أفضل بكثير بالمقارنة مع ترامب.
لكن الفوز في الولايات الحاسمة الأساسية الأربع مهمة شاقة جداً بالنسبة إلى أي مرشح. في حالة ترامب، عليه أن يحاول ذلك عبر شنّ هجوم قوي من الخلف، بواسطة مجهود غير كافٍ، بإجماع الكل، على مستوى المواجهة المحلية، وعلى مستوى فريق الحملة من مختلف النواحي، وكذلك على مستوى استراتيجيا توجيه الرسائل العامة، وفي ظل عدم الثقة الشديد لدى غالبية كبيرة من الرأي العام.
يصبح الواقع في حالة ترامب قاتماً أكثر عندما ندقّق جيداً في الخريطة. حتى لو نجح بطريقة ما في تحقيق النصر في الولايات الحاسمة الأربع، يبقى هناك بعض المسارات التي تستطيع كلينتون سلوكها نحو الفوز، ولو كانت صعبة. ثمة طرق كثيرة تتيح لها الحصول على 270 صوتاً في المجمع الانتخابي. أما ترامب فليس أمامه سوى سبيل واحد: تحقيق فوز واضح، إنما غير قابل للتصور عملياً، في الولايات الحاسمة.
بعدما أصبح زعيم “اليمين البديل” الهامشي، ستيفن بانون من موقع Breitbart.com الإلكتروني السيئ السمعة، مدير حملة ترامب، ومع تهليل كبار العنصريين في الولايات المتحدة ابتهاجاً “باستيلاء” تيارهم على الحزب الجمهوري من خلال ترشيح ترامب، من شبه المستحيل أن نتخيّل كيف يمكن أن يتحقق التحول غير المسبوق وتنقلب الخسارة نصراً من دون “مفاجأة” دراماتيكية وغير متوقعة على الإطلاق في تشرين الأول المقبل.
في غضون ذلك، يبدو أن حملة كلينتون تزداد قوة. لكن نظراً إلى الاستقطاب السياسي الشديد بين الحزبَين الأساسيين والتجانس في صفوفهما، من غير المرجّح أن تتمكن من تحقيق نصر كاسح بأكثرية الثلثَين على الطريقة القديمة كما فعل فرانكلين دي روزفلت، وليندون بي جونسون، وريتشارد نيكسون. لقد ولّت تلك الأيام.
يتحوّط المعلقون في توقعاتهم تفادياً للتعرّض للإحراج. يحتاج الإعلام إلى الإيهام بأن السباق تنافسي من أجل الاستمرار في إثارة الاهتمام. لذلك حفنة قليلة من وسائل الإعلام مستعدة للإعلان عن الحقيقة التي لا تقبل الجدل عملياً بوضوح شديد: لا يحتاج ترامب الآن إلى معجزة سياسية صغيرة لتحقيق الفوز، بل إلى معجزة غير مسبوقة وغير قابلة للتصور عملياً. لقد قُضي الأمر.
لا عجب بأن هناك تكهنات كثيرة بأنه يستعدّ فعلاً للانضمام إلى بانون وحليف مقرّب آخر هو رئيس “فوكس نيوز” سابقاً، روجر آيلز، الذي سقط من الحظوة (طُرِد من عمله منذ فترة وجيزة في قضية تحرش جنسي)، من أجل تأسيس أمبراطورية إعلامية يمينية متطرفة جديدة. بما أن ترامب شبه متأكد الآن من أنه سيخسر، قد يحاول “ملك الديون”، كما يُسمّي نفسه، الإفادة من الهزيمة وتحويلها مصدراً للأرباح.
النهار