طفح الكيل، كلمة أجبرت معظم السوريين على التفكير على نزع جذورهم بأيديهم رُغماً عنهم، في أقسى مشهد للنزوح والتهجير في العصر الحديث، من بيوتهم وأحلامهم التي صنعوها بكل حب وإخلاص، نتيجة تعنت النظام بآلته التي يبطش بها الحجر والبشر، مع تخاذل عالمي للجمه ووضع حد لجرائمه التي أخرجت العالم في مظاهرات كثيرة في بدايات الثورة.
وبينما يدعو النظام وروسيا لملف عودة اللاجئين، تجد الكثيرين أمام مراكز الجوازات بشتى السبل يريدون الخلاص من كابوس مظلم، لا أمل ببارقة ضوء داخله.
سارة الشابة العشرينية من مدينة السويداء، تمكنت في رحلة محفوفة بالمخاطر والأهوال على الرجال، فكيف بالنساء والفتيات؟!!، عبور الدول والجبال والبحار، في سبيل الوصول إلى مكان تشعر به بالأمان.
تقول “كنت أعيش في دمشق، لكني أشعر نفسي في سجن مفتوح، لا يحق لنا انتقاد أي شيء يتعلق بوضع البلد، عدا عن الظروف المعيشية المتردية وانشغالنا بأساسيات الحياة وبديهيات الأمور، متى تتوفر الكهرباء؟!!، لكي أشحن هاتفي؟!”.
وتضيف عن مرارة العيش “هل هناك مياه ساخنة للاستحمام؟!، هل يتواجد الخبز في الأسواق اليوم أم علينا تدبر وضعنا، كلها أسئلة يومية كانت تنهك حياتنا”.
تصف سارة “حاولت مراراً الحصول على تأشيرة سفر بشتى الوسائل” بهدف تنفيذ فكرة السفر التي علقت في ذهنها، لكن دون جدوى، إلى أن اندلعت أول مظاهرة في السويداء كانت بارقة أمل لها ولبقية أبناء السويداء، جعلها تنسى فكرة السفر، مشيرةً “شعرت وقتها بالحماس الشديد، وكأنها فسحة لرفع صوتنا عالياً والتخلص أخيراً من النظام الدكتاتوري”
شاركت سارة بمظاهرات السويداء، التي استمرت لبضع أسابيع، وتقول “رأيت تحول الحراك في مدينتي يوما بعد يوم، وشهدت كيف انسل الشبيحة فيما بيننا، واعتقلت أول صديق لي، واثنين آخرين، هكذا حتى وصل عدد الموقوفين إلى ثمانية أشخاص، حتى أنهم أخذوا رجلا كبير السن”.
جاء موعد الرحيل، خصوصاً بعد مشاركتها بالمظاهرات وخوفاً من اعتقالها، تشير أنها تواصلت مع شاب كان يفكر أيضاً بالهرب، فقررا خوض غمار التهريب معاً بهدف الوصول إلى تركيا.
تكمل أنها وصلت إلى تركيا بعد دفعها 500 دولار للمهرب من مناطق المحرر، ومعها الشاب، حتى وصلا كيليس أول مدينة تخط بها قدماها، ثم مباشرة إلى إسطنبول، حيث نسق الشاب مع شقيقه هناك، ليتوجه الثلاثة قاصدين إزمير على البحر والقريبة من جزر اليونان.
انتظر الثلاثة شهراً كاملاً لترتيب الرحلة، واستطلاع الطريق الأفضل مع مهرب مضمون، لوقت الموعد المنشود، جهزت سارة أغراضها داخل حقيبة صغيرة، وتم نقلهم إلى مكان المركب الذي لا يتسع لعشرة أشخاص، لكن جشع المهربين وضعوا فيه 25 مهاجراً، وانطلق المركب أخيراً، تقول سارة مستذكرة تفاصيل رحلتها المتعبة “وبعد إبحارنا أربع ساعات توقف المحرك بسبب الحمولة الزائدة، وكان الموج عالياً وصوت تلاطم المياه بالمركب لا تزال تُسمع بأذنيي لقد كنت خائفة حقاً”.
طال الإبحار الذي جعل الرحلة تطول، عدم توجه المركب للجزر خوفاً من عمليات الإعادة القسرية من الجانب اليوناني، تقول “كنت أنام بعمق وأستيقظ لأجد أنه لم يمض سوى نصف ساعة، لم أصدق أني مررت بكل هذا، وكأن الحياة بعد اجتياز تلك الرحلة بات لها معنى آخر”.
واليوم تعود السويداء إلى سيرتها الأولى التي وقفت بكل أبنائها ضد النظام، مطالبين بنهايته وسقوطه، بعد ثبات فشله، وتطفله على حياة الناس وأملاكهم.
قصة خبرية/طارق الجاسم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع