لم أكن أعلم أني سأفقد أبي قبل أن أكبر وأصبح إعلامية أقدم له نشرة الأخبار و يثني على تقديمي، فلا تزال كلماته في خلدي :
” يا بنتي قفي جيداً وارفعي رأسك، ولا بد أن يكون صوتك أعلى و تتفاعلي مع النص والكلمات”. حسنٌ أبي ولكن كيف كان أدائي هذه المرة؟
” تحسنتِ قليلاً، ولكن تحتاجين المزيد من التدريب لتنمي مهاراتك وتصبحي كوالدك، مذيع خبير وماهر، أنتَ أفضل مذيع في حلب وسوريا والعالم يا أبي .
كفاك مدحاً يا ليا(اسم مستعار)، هناك إعلاميون كثر في حلب وسوريا ممتازون، تقاطع أمي التي تغار من مدحي لأبي كعادة أي زوجة تسمع زوجها يثني على نفسه كثيرا، و يسمعها المدح لها كملح الطعام .
إي أمي، لكنهم ليسوا كأبي، فيرد أبي عليها: أنا لو جاءني من يدربني منذ صغري وحصلت على فرصة للعمل في قناة التلفزيون لكنت أشهر إعلامي في حلب، فترمقه أمي بنظرات مليئة بالغيرة تبدأ معها كالعادة مناوشات كلامية مضحكة تظهر لي كم يحب أبي أمي .
ربما لأني أيضا لا أثني على عمل أمي التي تعمل في مشغل الخياطة التي ورثته من جدها، فحلمي هو الإعلام، كأبي، أما أمي فهي قد درست الأدب الفرنسي في جامعة حلب، ثم تزوجت من أبي زواجاً تقليدياً، عن طريق جدتي، إنهما دائما ما يتكلمان ليظهرا مهارتهما وإبداعهما في العمل، وكنا نضحك كثيرا أنا وأخواي وأختاي عند كل مشهد شجار خفيف ومضحك!
والدي صحفي يعمل في حلب، ويكتب الأخبار ويكتب روايات مسرحية، أحب قراءة الروايات المسرحية التي يكتبها، تناولتُ كتاباً من مكتبته الصغيرة المليئة بكتب الأدب وكتب شكسبير وتوفيق الحكيم، وخرجت إلى شرفة بيتنا لأقرأ الكتب في ” البرندة ” العالية، كانت الأبنية عالية قليلا، وكنت أسمع أصوات الأطفال يلعبون في شارع الحي، بعضهم يحمل ألعابا ومسدسات خرز، والآخر بنادق أكبر، تساءلت في نفسي، لم يحبون اللعب بهذه الألعاب!! ما الذي يجنونه من ضرب بعضهم بمسدس خرز!
السماء جميلة من شرفة منزلنا في منطقة حلب الجديدة، أرى أحيانا سربا من الحمام الجميل يطير فوق الأبنية، أحسده لأنه يحلق عاليا، ويذهب لأي مكان بسهولة، وكلما أراد الهبوط إلى سطح البناء الذي فيه ينام، يبادر ذاك الشاب
الذي يحمل عودا طويلا عليه قطعة قماش بيضاء، يلوح بها للحمام كي يبقى في السماء فترة أيضاً.
كانت مدرستي في حلب الجديدة، نذهب أنا وإخوتي وأمي التي ترافقنا إلى الباص، ثم تذهب إلى مشغل الخياطة، لديها ورشة تشرف عليها، وأبي يذهب إلى عمله بعدنا بقليل، لديه نصف ساعة يشرب بها قهوته .
مرت الأيام على وتيرة واحدة، لم يقطعها إلا خبر إصابة أبي بمرض القلب، و ليتبعها بعد ذلك أخبار مرض السكر و الضغط، هل سيموت أبي قبل أن أصبح صحفية مشهورة، و يراني أقدم نشرة الأخبار بدون خطأ، ويثني عليّ كما كان يفعل حين كان يزيل التلفاز من مكانه من قلب الخزانة، ويطلب مني أن أقف وراءها لأقرأ له النص الذي كتبه عن جنون البقر الذي أصاب الدنمارك يومئذ؟
لم يصمد أبي كثيرا أمام المرض و مات رحمه الله، بكيت عليه ولا أزال، لم تمت معه رغبته أن أصبح إعلامية، أن أكون فتاة كأبيها، ناجحة ومشهورة، تلك النبتة التي زرعها في قلبي ، سأسقيها وأنبتها.
لم يسعفني الحظ أن أدخل كلية الإعلام، طلبوا علامات عالية هذه السنة لم أحصلها، فدخلت كلية الحقوق، لعلي أجد فيها شيئا يقارب الإعلام .
بدأت الثورة متأخرة عندنا في حلب، وكانت هناك مظاهرات على طريق حي سيف الدولة، طالبوا بالحرية وسقوط النظام الظالم، أتت أخبار قتل النظام للمتظاهرين العزل، ومعها بدأت شرارة الثورة في حلب، تأخرت الثورة فيها قياسا مع المدن الأخرى، لكن حلب كبيرة، وريفها كبير.
كنا نتابع بترقب الأخبار، في حيِّنا لم تقم مظاهرات، في حلب الجديدة الوضع الأمني مختلف عن باقي الأحياء، وكان فيها الكثير من المؤيدين للنظام، ومن يعارض لا يجرؤ على التظاهر، لذا كانوا يذهبون للمشاركة متخفين .
جاءت أختي زيارة إلينا، معها طفلها الذي آخذه منها لألاعبه وأقبله، هو حبيب خالته، ” أريد من الله أن يرزقني ولدا بجماله “، فقالت أختي وبدون مقدمات:
” ابن عم جوزي، رآك وهو معجب بك ويريدك”. نظرت أمي إليها وأنا بدهشة ” !
” الشاب هادئ وخلوق”، وزوجي أخبرني أنه يعرفه جيدا “، فكرتُ بالأمر، إنها المرة الأولى التي لقيت بها اهتماما من شاب، خفق قلبي قليلا، زارنا الشاب مع والدته، واسمه أحمد ( اسم مستعار)، تقريبا عمره كعمري، استقبلته أمي وأخي، كنت أسمع كلام أمي وأمه من المطبخ، ارتديت ملابسي الجميلة، ودخلت أضيف القهوة المعتادة التي يقدمها الناس للخاطب .
خفق قلبي كثيرا يومها، لم أستطع النظر إليه بداية، لكني لمحته. سألته أمي: ” ماذا درست أستاذ أحمد ( اسم مستعار)”؟ وماذا تعمل؟ وما قولك في عمل المرأة؟
قال:” حاليا أبحث عن عمل، أنت ترين الثورة بدأت وتعطلت المصانع والحرف، دراستي للتاسع فقط”، ” ولا مانع لدي من عمل الزوجة “.
لقد كانت كلماته هادئة متزنة، مليئة بالثقة، إنه خلوق وهادئ،
نظرت إليه وهو يتحدث، كان وسيما، وأظن أنني معه سأكمل دراستي وأحقق حلمي بمساعدته في العمل.
قال أخي الكبير” ياليا (اسم مستعار)، الشاب لا يناسبنا، لم يدرس وليس لديه عمل”، لم أحب هذه الكلمات من أخي الكبير، والأمر يخصني، قلت لأمي إني ارتحت قليلا للشاب، ويبدو مؤدبا خلوقا .
” انظري يا ابنتي هذه حياتك، أنت ستختارين وتتحملين مسؤولية ذلك، والشاب جيد كما يقول صهرنا، وأثناء الخطبة تتعرفين عليه أكثر”، أفرحتني كلمات أمي أكثر من أخي.
أرسلنا الموافقة للأم، وحددنا موعد الخطبة، وتم خطبتي عليه، وبقينا فترة قليلة، كان يعدني بأنه سيسعدني ويحفظني، ويقدم لي كلما أتمناه، وسيجعلني تاجا على رأسه، كما يردد دائما .
لكن لم يستطع الحصول على عمل، الأوضاع بالغة الصعوبة والثورة تشتعل، لذا طلبت من أمي مساعدتنا بالزواج، فاستأجرنا بيتا بجانب بيت أمي، وتزوجنا .
” أنا بغار عليك من الطير، اتركي العمل، وكوني معي، انت درستِ وأنا لا، لكن هذا ليس ذنبي، أبي وأمي هما السبب”، ” ولكن يا أحمد (اسم مستعار) أنت لا تعمل، تجلس في البيت وتنتظر مساعدات أمي، وانا أشعر بالخجل جداً منها، دعني أعمل”، ” لن تذهبي للعمل، ” ،” لكنكَ لا تستطيع أن تجني مالا، مضى على زواجنا أشهر، أنت جالس كيف سنكوّن أسرة وأولاد، دعني أذهب للروضة لأدرس الأطفال “!
قالت لي والدته بعد اشهر: ” (أحمد) لديه أزمة نفسية، يتناول مهدئات وحبوب، انفصلنا أنا وأبوه وكان صغيرا، فأصبح عنيفا مضطربا لا يكاد يخلو يوم إلا والمشاكل بيننا تحدث، كشف أحمد لي عن وجهه الذي اخفاه في الخطبة، لقد كان شديد الغضب، وشديد الغيرة مني، لم يكن يتقبل رأيي أو نصحي في أي أمر .
منعني من الذهاب لبيت أمي، وبيت إخواتي، كنت أشعر بالخجل من أخي الكبير كلما سمع عني معاملة زوجي لي.
جلستُ أضع رأسي على يدي باكية، أفكر في تلك الزهرة الجميلة التي كانت مدللة والدها وأمها، كيف رمى بها الزمن هكذا بسبب تسرعها، وعدم تفكيرها جيداً قبل الزواج .
( أحمد) أنا وافقت عليك ظنتك هادئا وذا خلق، لكن بدا لي العكس، وتنازلت عن كونك لم تدرس، إلا أنك أبديت لي غيرة وحسد! اتحسد زوجتك يا أحمد!
تم الطلاق بيننا، وكان لي دواء أنفع من البقاء مع شخص لا يحترم زوجته، ودائم الصراخ والغضب بشكل هيستيري .
ضاقت علي الأرض بما رحبت، وأصابني التهاب عصبي في معدتي، ربما كثرة الحزن والبكاء هما السبب، لم يعرف الأطباء سبب المرض، إلا أنهم أخبروني أن أخفف من الحزن والتعب النفسي.
عشتُ مع أمي، وأخي الكبير، الذي يكرر دائما:” أنا من البداية لم أوافق عليه، لم أشعر أنه سيتحمل مسؤولية، كان ينبغي عليك أن تتريثي وتصبري وتسألي عنه جيدا”.
لو كان والدي على قيد الحياة كان سيسأل أكثر عن أحمد ، ويتعرف عن قرب على والده، ويعرف عن حياته وعمله وخلقه، فالرجل لا يعرفه إلا رجل، كما المرأة تماماً .
في هذه الأثناء، كانت حلب تتدمر، خسر الثوار كل حلب، وفشلوا في الحفاظ عليها، بدأ الناس بالهجرة منها، و دخل النظام إليها، كنا قد انتقلنا إلى سيف الدولة وحي الشعار،
وهجرنا بيتنا وحيِّنا، ومع تسارع الأحداث و تداخل القوى الدولية قرروا تهجيرنا، ومن سيبقى يبقى، إلا أننا قررنا الخروج .
” كانت الباصات الخضراء “، تقل الناس إلى إدلب، وريف حلب، كانت موسم للهجرة كموسم الطيور الكثيفة التي تغطي السماء، الأطفال والنساء والشيوخ يتهافتون للركوب بالباصات، والشباب يحملون السلاح المسموح لهم بحمله، ويركبون الباصات الخضراء .
خرجتُ مع أمي وإخوتي ، لنترك مدينتي حلب وأترك معها ذكرياتي في شوارعها
وحاراتها، ليسكنها الغرباء الذين احتلوا قلوبنا، صعد ضابط روسي إلى الباص، ونظر إلينا شامتا يقول: ” من يريد أن يبقى فليبقى، ستكونون بأمان هنا “، كان خوفنا كله أن يؤذوا الشباب الذين يحملون السلاح معنا، خرجنا من حلب، واتجه الباص لريف إدلب، والثلج يتساقط، والبرد يأكل عظامنا، علقت عجلة الباص بالأرض وانغرزت، كاد أن ينقلب بنا، وبدأ الناس بالصياح، ثم تمكن السائق من الخروج منها، ما إن دخلنا للمناطق المحررة حتى اطمأننا وساد الفرح قلوبنا والأمل .
سكنا في مدينة عفرين أرض الزيتون، تقدمت للعمل في قناة فضائية، قبلت فيها وكنت المراسلة الأنثى الوحيدة، عملت في التقارير الميدانية والبرامج التلفزيونية، بدأ جزء من أمنيتي بالتحقق، وأن أكون كأبي.
كان عملي يلق نجاحا وإعجابا من الإدارة، كنت أشعر بالفرح والطمأنينة لتقدير عملي، وكنت كذلك أشعر بالراحة لخدمتي للحالات الإنسانية، وإيصال رسالة لكل من يستطيع تقديم العون لها. أين أنت يا أبي لترى بنتك سارة ( اسم مستعار)، تلك التي تقرأ لك النصوص كالمذيعة وراء خزانة التلفاز، وتقول لها لديك موهبة كبيرة
في الإلقاء، أين أنت لتراها الآن كبرت أصبحت إعلامية بهموم كبيرة وأحزان مصفوفة.
بقلم : محمد إسماعيل