بعد ذلك، استكمل النظام السوري خططه بشكل كامل لزجّ وحدات الجيش والفرق العسكرية بأكملها لإخماد المظاهرات التي انتشرت في عموم المدن السورية. كانت الخطة تعتمد على تحويل قطعات الجيش إلى مرادفٍ للقوات الأمنية، أو المخابرات العسكرية أو الجوية، في حصار المدن، وقطع الخدمات الأساسية، ومن ثم الاعتماد عليها في نصب الحواجز، وفرض قوة عسكرية هائلة لا قدرة لقوات المقاومة المدنية السلمية التي تعتمد على التظاهر السلمي على مواجهتها في تلك الفترة.
مع تصاعد الانشقاقات داخل وحدات الجيش النظامي، ومع الإعلان عن ولادة ما يسمى الجيش السوري الحر في يوليو/ تموز 2011، بدأ النظام يفكر مجدّداً أن الاعتماد على وحدات
الجيش النظامي ليس موثوقاً، فالمنشقون في ازدياد، كما أنهم يأخذون معهم أسلحتهم الفردية عند انشقاقهم. هنا فكر النظام في الاستفادة من حركات الانشقاق هذه، لاتهام الثورة السلمية بأنها جماعات مسلحة تحمل السلاح، وتهاجم مؤسسات الدولة وعناصر القوات الأمنية، لكنه، في الوقت نفسه، أدرك أن الاعتماد كلياً على وحدات الجيش لمواجهة الثورة التي تحولت تدريجياً إلى “ثورة مسلحة” خيار ليس آمناً، بحكم تصاعد الانشقاقات داخله، وفي الوقت نفسه، التذمر داخل بعض قياداته للمشاركة في حرب ضد “سوريين” ليس مهيأً للحرب، أو معدّا لها بهذه الطريقة.
مع تصاعد حدة الانشقاقات مع بداية عام 2012، وازدياد قوة المعارضة المسلحة، ازداد انغماس “الجيش النظامي” في أتون الصراع المسلح، وحتى الفرق العسكرية، مثل الفرقتين 17 و18 غير العاملتين والمعدتين للاحتياط فقط، تم الزج بهما لقمع الاحتجاجات المسلحة في حمص وريفها وفيما بعد حلب، فيما احتفظت قوات النخبة (الفرقة الرابعة) والحرس الجمهوري بوظيفة أساسية، أمن العاصمة دمشق. ومع منتصف عام 2013، وتحول الثورة السورية إلى ثورة مسلحة بالكامل تقريباً في جبهات ريف دمشق وحلب وحمص ودرعا وإدلب، بدأ الطيران السوري بقصف قرى ومدنا مأهولة، بعد عجز الجيش تماماً على الدخول إلى المدن الخارجة عن سيطرة النظام، وتحول الهدف من السيطرة إلى تحويل كل هذه المدن إلى مدن غير قابلة للحياة، بغض النظر عن تكلفة ذلك على المدنيين، أو حتى سمعة النظام في تهجير الملايين من السوريين بسبب اللجوء.
وحتى عام 2015، كانت ثلاث فرق عسكرية سورية كاملة قد اضمحلت، أو اختفت من الوجود، ولم يبق من كتائبها إلا أفراد جرى فرزهم إلى قطع عسكرية تتبع فرقا أخرى. وبالتوازي، جرى تأسيس مليشيات الدفاع الوطني التي من شأنها أن تضمن الولاء الطائفي، وتعمل بالتعاون مع مليشيات حزب الله، ومن ثم المليشيات العراقية الطائفية التي أصبح الاعتماد عليها أكثر فأكثر وازداد اتهام فرق الجيش بعدم الفاعلية والجبن، أو اللاجدوى.
يمكن القول إن الجيش النظامي، كما هي هيكليته المؤلفة من فرق وكتائب، قد انهارت بالكامل، وجرى اللجوء إلى مليشيات أكثر تأثيراً وولاء، خاصة المليشيات الأجنبية. والخطورة في انهيار هذا الجيش أن كل الانشقاقات التي جرت فيه كانت على المستوى الأفقي، ولم يحدث انشقاق شاقولي واحد، بمعنى أنه لم يتم انشقاق أي فرقة أو لواء أو حتى كتيبة بالكامل، وكل الانشقاقات كانت على المستوى الفردي، بمعنى أنه كان أشبه بالتحلل، وهذا ما ضاعف عدد الضحايا، وأدى إلى تحول سورية إلى أشبه بالدولة الفاشلة. فشكل نظام الحكم القائم في
المستقبل القريب مهما كان يعني أن تدخل سورية تقريبا، بكل المعايير والتصنيفات السياسية وبكل الأرقام الاقتصادية، مرحلة الدولة الفاشلة، فهي غير قادرة على حماية سيادتها، حدودها أو أجوائها، وغير قادرة على حماية مواطنيها، بل تسعى عمليا إلى تهجيرهم وتشريدهم، كما أن معظم الخدمات التي يمكن أن تؤمنها الدولية من كهرباء ومياه وأمن تشهد انقطاعا في معظم المناطق، وأحياناً غياباً كلياً. سورية تعتمد الآن في كل مناطقها، تلك التي تخضع للنظام أو التي تخضع للمعارضة، على المساعدات الدولية، وبرامج المساعدات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة. وبالتالي هي بشكل أو بآخر تحت وصاية دولية، من دون أن تعلن الأمم المتحدة ذلك، كما أن أجواءها عرضة للانتهاكات الدولية من كل الأطراف، ففي شهر فبراير/ شباط الماضي، سقطت في السماء السورية أربع طائرات من أربع جنسيات، روسيا وإيران وإسرائيل وتركيا، وهذا يعطي مؤشرا على مدى “دولنة” الصراع في سورية، ويعطي فكرة بشأن انهيار فكرة السيادة السورية بشكل كامل ونهائي.
يدفع السوريون اللاجئون والمهجرون والنازحون ثمن هذا الحال، وهو النتيجة الحتمية لتحلل الجيش، وقراره في دخوله الحرب ضد الشعب والمجتمع، والذي نتجت عنه حقيقة لا أحد يستطيع إنكارها، أن سورية التي نعرفها لم يعد لها وجود أبداً، وأن “سورية” جديدة ربما تتخلق، لكنها لم تولد بعد، ربما تكون “سوريات” جديدة، وربما تكون نموذج الدولة الفاشلة التي تستمر عقودا، في ظل عدم اكتراث المجتمع الدولي بمصير السوريين الذين لم يعودوا يجدون في بلدهم المأوى الآمن.