ربما كانت وطنيتهم هي الفخ الذي وقعوا فيه فاستفاد منه النظام أربعين سنة. لا يزال ذلك الفخ القائم رهانا رابحا بيد النظام. ولكن الأجيال الجديدة بدأت تتحرر منه باعتباره فضيحة أجيال فاشلة.
عقدة الوطنية لدى الإيرانيين هي أشبه بالقيد الذهبي الذي سعى النظام إلى تطبيعه باعتباره تقليدا نبيلا وأصيلا ودليلا آخر على التفوق. وهو ما يمكن أن يلاحظه المرء في أفكار أشد التنظيمات معارضة للنظام ورغبة في القضاء عليه سعيا وراء التغيير في إيران.
لذلك بذل النظام الإيراني كل جهوده من أجل أن تعيش إيران حالة حرب دائمة. عن طريق تلك الحرب كان النظام يضمن وقوف أعدائه المحليين معه من غير أن يكونوا راغبين في ذلك. فمجاهدو خلق الذين بطش بهم النظام بقسوة لا يفضلون أن يسقط نظام الملالي من خلال حرب تشنها الولايات المتحدة عليه. ما يعني أنهم لن يترددوا في القبول ببقاء النظام في حالة استمرار العداء الأميركي – الإيراني.
ذلك موقف مترفّع ونبيل تُشكر عليه المنظمة التي قدمت الآلاف من الضحايا وهي تقاوم النظام. ولكن حقيقة ما يجري على الأرض لا يمكن اختصاره بالنبل الأخلاقي. فالنظام الذي حكم إيران عن طريق العنف من غير وازع أخلاقي مستعد للذهاب بإيران وشعبها إلى التهلكة مقابل أن يبقى.
وهكذا تكون الوطنية التي يتفاخر بها الإيرانيون مجرد عصا استعملها النظام للدفاع عن وجوده الأبدي. فإيران هي الجمهورية الإسلامية، وهو ما يعني أن إيران هي النظام القائم في ظل ولاية الفقيه.
أعتقد أن بإمكان ذلك التفصيل الصغير أن يعيد إلى الإيرانيين شيئا من العقل الذي فقدوه بسبب وطنيتهم العمياء. لا أردّ هنا على مَن يقول إن الوطنية الإيرانية كانت نوعا من العنصرية.
المهم أن هناك أجيالا جديدة من الإيرانيين صارت تتكلم لغة مختلفة. هي لغة المجتمع المدني الذي ظل مغيّبا عبر أربعين سنة من حكم الملالي.
لقد اكتشفت تلك الأجيال أن إيران شيء والنظام هو شيء آخر. بالقوة نفسها فإن إسقاط النظام لن يؤدي بالضرورة إلى دخول إيران في متاهة فوضى لا نهائية، كما حدث للعراق على سبيل المثال.
فالعراق في الأساس فقد صداقة العالم قبل أن يُحتلّ، أما إيران فإن هناك مَن يحرص على الدفاع عنها. لقد أزعج الملالي العالم. هذا صحيح. غير أن دولا كبيرة لا تزال تضع إيران في منزلة الدولة الضرورية التي يجب الحفاظ على سلامتها.
ومن المؤكد أن نظام الملالي نجح عبر وسائل دعايته في أن يُضلل الفقراء وبسطاء الناس بفكرة وقوفه وحيدا في وجه الإمبريالية وما يسميها بقوى الاستكبار العالمي، غير أن ذلك ليس صحيحا.
ذلك لأنه يستند في حربه على موقف دول عديدة تحرص على سلامة إيران، وهي تحاول بشق الأنفس أن تقنع النظام سلميا بالتراجع عن سياساته العدوانية التوسعية التي تقوم أصلا على نشر الإرهاب وتهديد الأمن والاستقرار في العالم.
وكما يبدو فإن محاولة النظام ابتزاز المتعاطفين مع إيران ستنتهي عمّا قريب إلى الفشل الذي سيؤدي إلى أن يفضّ الجميع أيديهم عنه. وهو ما بدا واضحا على الموقف الأوروبي.
ذلك كله انعكس على الداخل الإيراني حيث صار الشباب يعيدون النظر في مفهوم الوطنية التي كانت بمثابة فخّ حصر النظام به معارضيه في زاوية ميتة.
لقد صارت شعارات النظام القديمة التي كانت تندد بالشيطان الأكبر محل سخرية بالنسبة إلى المحتجين على سوء أوضاعهم في البلاد على كافة الأصعدة.
لم يعد يعنيهم في شيء أن يتم إسقاط النظام عن طريق حرب خارجية. ذلك تحوُّل كشف عنه مشهد رمزي ظهر فيه الشباب وهم يتحاشون السير على العلمين الأميركي والإسرائيلي.
إيران تتغير من الداخل بحيث صارت الوطنية الحقيقية تتمثل في إسقاط نظام الملالي بأيّ صورة. صارت هناك قناعة مفادها أن بقاء نظام الملالي معناه فناء إيران.
نقلا عن صحيفة العرب _ فاروق يوسف