“البحث عن أو توفير الرعاية الصحية يجب ألّا يكون حكم إعدام”، هكذا أكّد جوان ليو، رئيس منظمة أطباء بلا حدود، خلال كلمة ألقاها أمام مجلس الأمن الدولي في الثالث من مايو الحالي. قبل أيام قليلة، قصفت طائرات النظام السوري مستشفى القدس في مدينة حلب مما أسفر عن مقتل آخر طبيب أطفال بالمدينة، وبعد ذلك قصفت مستشفى للولادة. صوّت مجلس الأمن بالإجماع لصالح قرار يطالب بفرض حماية مشددة على العاملين في مجال الرعاية الصحية والمرضى والمستشفيات. وقال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون: “في كثير من الأحيان، لا يتم الاعتداء على المنشآت الصحية والعاملين في المجال الطبي بمعزل عن تداعيات المعركة، بل يكون الهدف المنشود للمقاتلين. وهذا أمر شائن وغير مبرّر”.
الاستهداف المتعمّد للمستشفيات والطواقم الطبية لا يقتصر على الحرب السورية. لقد تمّ قصف المستشفيات في الحروب في اليمن، وجنوب السودان، وسري لانكا كذلك. في الواقع، إنّها مشكلة خطيرة لدرجة أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر أطلقت مشروعًا جديدًا يسمى “الرعاية الصحية في خطر” لرفع الوعي بهذه المشكلة النظامية.
ولكن الوضع في سوريا، في بعض النواحي، لم يسبق له مثيل. وفقًا لمنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، وهي مؤسسة حقوقية في الولايات المتحدة، فإنَّ “حجم ووحشية الهجمات على المنشآت الطبية السورية والمهنيين الصحيين غير مسبوقة” في تاريخها من الهجمات الموثّقة على منشآت الرعاية الطبية طوال 30 عامًا. وقال مايكل فان روين، مدير المبادرة الإنسانية في جامعة هارفارد، إنَّ “سوريا اليوم هي أبرز وأسوء مثال” على الاتجاه المتزايد للهجمات المتعمدة على مؤسسات الرعاية الصحية. لقد أصبح الوضع مأساويًا لدرجة أن منظمات المهن الطبية والمنظمات غير الحكومية هناك أُجبروا على تقديم الرعاية في أماكن غير متوقعة على الإطلاق، بما في ذلك المصانع والكهوف، وأقفاص الدجاج.
حالات الوفاة الفورية والإصابات الناجمة عن الهجمات على المستشفيات هي مأساة حقيقية. ولكن الآثار على المدى الطويل قد تكون أكثر تدميرًا، والرعاية الروتينية للأمراض التي يمكن التحكم بها لن تصبح متوفرة. وبالتالي، لا عجب أن استهداف البنية التحتية الطبية هي جريمة حرب بموجب القانون الإنساني الدولي.
والسؤال هنا: لماذا لا تزال يزال القانون الدولي يتحمل العبء الأكبر من العنف؟ بغض النظر عن العديد من العوامل الأخرى ذات الصلة بالصراع المعني، فإنَّ القانون الإنساني الدولي في حد ذاته قد يلعب دورًا كبيرًا في ذلك. في الواقع، الرعاية الطبية أثناء النزاع ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ القانون الإنساني الدولي. هنري دونان مؤسس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تأثر للغاية بمحنة الجنود الجرحى الذين أطلقوا حركة لوضع قوانين دولية لحمايتهم. وسرعان ما تمّ توسيع قائمة الأشخاص المحميين لتشمل المهنيين والمستشفيات الطبية وتوفير الرعاية المحايدة لجميع الجرحى من المقاتلين والمدنيين.
لكنَّ نظام الحماية لا يزال غامضًا بشأن بعض المفاهيم الأساسية. على سبيل المثال، فإنَّ القانون ليس واضحًا تمامًا فيما يتعلق بالقواعد التي تجعل الوحدات الطبية المؤهلة تحصل على الحماية التي يوفرها. ووفقًا للبروتوكول الإضافي الثاني الملحق باتفاقيات جنيف، يجب حماية الوحدات الطبية “ما لم يتم استخدامها للقيام بأعمال تضر بالعدو، خارج مهمتها الإنسانية”. ولكن كما لاحظت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإنَّ “القانون الدولي الإنساني لا يعرّف مفهوم “الأعمال الضارة بالعدو،” ولا العواقب الدقيقة لفقدان الحماية أو متى يستمر هذا الوضع. “على سبيل المثال، إذا كان المستشفى لا يشارك في” أفعال ضارة بالعدو، “هل يتحول تلقائيًا إلى هدف عسكري مشروع أم يبقى مؤسسة مدنية؟
البروتوكول الإضافي الأول، الذي ينظّم النزاعات الدولية المسلّح، يوفر بعض المساعدات من خلال إدراج الأنشطة التي تزيل مثل هذه الحماية، بما في ذلك أفراد تسليح للدفاع عن أنفسهم، والحفاظ على الحرّاس، وعلاج أفراد القوات المسلّحة أو المقاتلين الآخرين. ولكن البروتوكول الثاني الإضافي، الذي يحكم النزاعات المسلّحة غير الدولية، مثل الصراع في سوريا، لا لا يحتوي على مثل هذه الأحكام.
هذه اللغة الغامضة لا تغذي الألعاب الفكرية الأكاديمية فحسب؛ بل إن لها عواقب وخيمة. على سبيل المثال، بعد الهجوم على مستشفى القدس، أصدر النظام السوري بيانًا يجادل بأنَّ “أجزاء كبيرة من الشرق تقع تحت سيطرة المتمردين الجهاديين، من بينهم جبهة النصرة … ولذلك تعتبر المستشفيات الخاضعة لسيطرتها أهدافًا مشروعة “. وهذا الموقف يتفق مع المرسوم الذي أصدره النظام في الأيام الأولى للصراع، والذي يجرّم توفير الرعاية الطبية في المناطق التي تسيطر عليها تلك الجماعات التي يعتبرها إرهابية.
وفي تقرير نُشر عام 2015، أشار الباحثون القانونيون داستن لويس، وناز ك مديرزاده، وغابرييلا بلوم أنَّ سياسة الأمم المتحدة لا تسمح بتقديم الرعاية الطبية لأعضاء تنظيم القاعدة، على الرغم من أن القانون يدعو للنزاهة الطبية: “هذه المراجع تشير إلى أن لجنة العقوبات، وبالتالي، الهيئة المشرفة عليها، مجلس الأمن نفسه، تعتبر الرعاية الطبية والمستلزمات الطبية كشكل من أشكال الدعم غير المسموح به لتنظيم القاعدة والمرتبطين به.”
ما الذي يمكن القيام به بعيدًا عن إنهاء الصراع، أو على الأقل، خلق مناطق إنسانية آمنة؟ المجتمع الدولي لديه عدد قليل من الخيارات. إنّه بحاجة إلى الاستمرار بقوة في إدانة هذه الأعمال، وقد فعلت ذلك الأمم المتحدة وعدد من الدول والمنظمات غير الحكومية بعد حملات القصف الأخيرة على المستشفيات والطواقم الطبية في سوريا. وعلى الرغم من أن المجموعات الرئيسية التي تعمل على هذه القضية أعلنت عن رأيها، أعرب ليو وبيتر موير، رئيس اللجنة الدولية، عن قلقهما إزاء ما يعتبرانه الطبيعي الجديد، وقال: “ثمة حالة خطيرة من الرضا تظهر حيث بدأ اعتبار مثل هذه الهجمات بأنها القاعدة وليست الاستثناء.” إنّهما جزء من نسيج الصراعات المسلّحة اليوم حيث يتمّ اعتبار استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية … والمرافق الصحية على أنها “لعبة عادلة”. وقد أشارا إلى أنّه ما بين عاميّ 2012 و2014 وثّقت اللجنة الدولية للصليب الأحمر 2400 هجمة ضد منشآت الرعاية الصحية في 11 دولة فقط. ولم يكن هناك أي رد فعل من الأمم المتحدة. وقد اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة لأول مرة في عام 2014 بشدة الهجمات ضد المؤسسات الطبية والموظفين التي تحدث في الصراعات حول العالم. لكن أن تأتي متأخرًا خير من ألّا تأتي مطلقًا. الصمت أمام انتهاك المعايير ليس فقط يضعف هذه المعايير، ولكن يخلق مساحة لانتهاكات جديدة، ربما تكون أكثر خطورة.
يتعيّن على المجتمع الدولي عقد أولئك الذين ينتهكون القوانين والأعراف للمساءلة. منظمة أطباء بلا حدود انسحبت في الآونة الأخيرة من قمة الإنسانية العالمية، التي وصفتها بأنها “ورقة التوت التي تخفي العورات تحت ستار من النوايا الحسنة،” لأنه لم يكن لديها خطة حقيقية للتعامل مع المخالفين للقانون الإنساني الدولي سواء من الجهات الحكومية أو غير الحكومية. الإدانات، في حين أنها مهمة وضرورية، لكن لا يمكنها الحفاظ على نظام الحماية.
يجب أن يوضح المجتمع الدولي النقاط الغامضة في القانون لمنع الجناة المحتملين من إخفاء جرائمهم تحت عباءة الشرعية. النظام القانوني الذي ينظّم النزاعات المسلّحة غير الدولية يحتاج اهتمامًا خاصًا؛ فهو أقل تطورًا من النظام الذي ينظّم النزاعات المسلّحة الدولية. ويرجع هذا جزئيًا إلى أنَّ السيادة أخذت محل حماية المدنيين في الصراعات الداخلية.
العلماء والممارسون بحاجة إلى تكريس مزيد من الوقت لبحث انتهاكات القانون الإنساني الدولي. ووفقًا لليونارد روبنشتاين، من مدرسة جونز هوبكنز بلومبرج للصحة العامة، وميلاني بيتل، من معهد الولايات المتحدة للسلام، “لا توجد تقارير بصورة منتظمة عن الاعتداءات على المنشآت الطبية في النزاعات المسلّحة، ولم يتم إجراء مراجعة شاملة لتلك المشكلة في السنوات الأخيرة.” دون تقدير ما يحدث على أرض الواقع، لن يستطيع المراقبون فهم حجم وأسباب جرائم الحرب. هذا النوع من البحوث يمكن أن يساعد في تحديد أفضل السُبل لتحسين القانون الإنساني الدولي. كما أنَّ الجهود المبذولة على غرار حملة “الرعاية الصحية في خطر ” التابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر هي خطوة ضرورية في الاتجاه الصحيح، ولكن هناك الكثير مما ينبغي القيام به.
لا يمكن المبالغة بشأن أهمية حماية المرافق الطبية والموظفين. طبيب أطفال السوري محمد وسيم معاذ، الذي بقى في منطقة الصراع لتقديم رعاية صحية منقذة للحياة، كان ينبغي حمايته. موته، وغيره من جرائم الحرب المشابهة في جميع أنحاء العالم، سيكون لها عواقب وخيمة. القيام بأعمال مجدية في سوريا الآن يمكن أن يرسل إشارة قوية إلى الجناة في مناطق الصراع الأخرى. كما قال موير: “الهجوم على مستشفى، وتهديد الأطباء، وإجبار الممرضات على تقديم معاملة تفضيلية للمقاتلين المسلّحين، واختطاف سيارات الإسعاف، واستخدام المرضى كدروع بشرية، كل هذه الجرائم ليست أضرار جانبية. هذه ليست حقائق محزنة علينا أن نعتاد عليها. إنها أعمال بغيضة يجب محاربتها واتجاهات يجب التراجع عنها”. لقد حان الوقت أن يلبي العالم هذا النداء.
فورين أفيرز – إيوان24