تميز تراثنا العربي بما يمكن أن نسميه «الكتب القصصية ذات القالب الواحد والمضامين المتعددة» ونعني بها شكل المقامات القصصية، التي تعبر عن غايات واضحة يرومها المؤلف، ويصوغها في هذا الشكل الممتع، ليجذب به متلقيه. ولا بد أن نقر بأن فن المقامة إبداع تراثي، يحمل خصوصية الحضارة العربية الإسلامية، ويتواءم مع خصوصية المتلقي العربي في عصورها.
فمن الثابت تاريخيا أن دائرة التلقي في التراث العربي كانت رحبة، لا تقتصر على الشعر فقط، وإنما اتسعت لتشمل ألوان القصص الشفاهية والسماعية، وعبّرت عن رغبة العامة والخاصة في الاستماع لأشكال عديدة من السرديات، مما كان حافزًا للكثير من المبدعين على تأليف وجمع القصص، وهذا أمر ليس في القرون المتأخرة، وإنما يمتد منذ القرن الأول الهجري، حيث انتشر قصاصو المساجد، الذين يروون القصص الدينية، وكذلك القصاصون خارج المساجد الذين راحوا يقصون على العامة قصص الجاهلية، وكان الخلفاء الأمويون، ومن بعدهم العباسيون، يحبون أمثال هذه القصص. ولعل هذا هو السبب في عناية كثير من الكتّاب في ذكر القصص الحقيقي، أو المتخيل في كتب مطولة مثل أبي منصور الثعالبي، وأبي علي القالي، وأبي الفرج الأصبهاني وغيرهم، بجانب ما أحدثتـــه المترجمات القصصية من الأمم الأخرى من رواج للقصص في موازاة مع الشعر.
والمقامة لغويًا تعني: المجلس، أي مقامات الناس مجالسهم، ومن ثم تطور المدلول اللغوي إلى اصطلاح أدبي. وقد جاء إنشاء المقامات كشكل قصصي شفاهي مأخوذ عن مقامات الوعاظ، التي كانت تلقى في المساجد، واشتملت على ألوان من القصص والأساطير وفنون الحرب، والثقافة العامة، ويبدو أن الناس كانوا يفضلون هذا اللون من الوعظ لأنه يدفع السأم عنهم، فقد كان يجمع بين القص والشعر من خلال الدرس الشفاهي المباشر.
وأما المفهوم الفني والشكلاني للمقامة فيشرحه أبو القاسم بن علي الحريري في مقدمة كتابه المعروف بـ«مقامات الحريري» فيقول: «وأنشأت… خمسين مقامة تحتوي على جدّ القول وهزله، ورقيق اللفظ وحزله، وغرر البيان ودرره، وملح الأدب ونوادره، إلى ما وشحّتها به من الآيات، ومحاسن الكنايات، ورصّعته فيها من الأمثال العربية، واللطائف الأدبية، والأحاجي النحوية، والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة، والخطب المحيرة، والمواعظ المبكية والأضاحيك الملهية، مما أمليت جميعه على لسان أبي زيد السروجي، وأسندتُ روايته إلى الحارث بن همام البصري، وما قصدت بالإحماض فيه (الانتقال من أسلوب إلى آخر) إلا تنشيط قارئيه، وتكثير سواد طالبيه».
تقاربت المقامات مع أغلب الأشكال القصصية السائدة في التراث العربي، مثل اعتمادها على طريقة التوثيق التي نجدها في مطلع المقامة، حيث تبدأ المقامة بـ«حدثنا فلان» ويقصد به الراوية الذي يحكي عن البطل صاحب المغامرات والقصص والمواقف.
إذن، المقامات هي قصص قصيرة الحجم، تشتمل على عنصرين أساسيين في قالبها وهما: بطل وراوية، وقد أودعها مؤلفها فكرة أدبية أو فلسفية أو خطرة وجدانية أو لمحة من لمحات الدعابة أو المجون، بهدف تنشيط القارئ، وجذبه إلى التأمل في ما يقصده المؤلف، من الفتاوى اللغوية واللطائف الأدبية والأحاجي النحوية، وهذا ما دفع بعض الباحثين إلى وصفها بأنها قصص لغوية؛ لأن مواضيعها مهما تعددت، ومهما تنوعت تبقي اللغة سداها ولحمتها، ولأن الحكاية الواحدة تجمع من أساليب الكلام وأنواع القول وضروب اللغة أشكالاً وأنواعًا، إلا أننا لا نتفق مع هذا الرأي كثيرًا، لأن في نصوص المقامات كثيرًا من التنوع في الشخصيات والمضامين والأمكنة، كما أن فيها أغراضًا مختلفة تهدف إلى النصح والإرشاد، أو الثقافة العامة، أو التسول، وإن كانت في إطار من الصنعة اللفظية والبلاغية، ما يجعلها ترتفع فوق هذا الرأي.
ويشير الحريري أيضا في مقدمته إلى أنه تعلم هذا الفن من بديع الزمان الهمذاني، حيث يقول: «مع اعترافي بأن البديع رحمه الله، سبّاق غايات، أو صاحب آيات، وأن المتصدي بعده لإنشاء مقامة، ولو أوتي بلاغة قدامة، لا يغترف إلا من فضالته، ولا يسري المسري إلا بدلالته». وهناك تميز بين كتب المقامات، فهي ليست قوالب جامدة، بقدر ما هي أطر عامة يندرج تحتها الكثير من المعاني، وقد تميز الحريري مثلاً، بتأثره بالأجواء والمعتقدات والعادات الشعبية، التي قد لا يكون لها مرجع ديني، فنجد لدى بعض شخصياته الاعتقاد بالأحراز والتعويذات السحرية، والتمائم والعزائم، إلخ.
إلا أن المبتكر الأول لهذا اللون القصصي هو ابن دريد، وهو أبو القاسم محمد بن دريد المتوفى في بغداد سنة 321 هـ، وكان شاعرًا مقلاً له معان قوية ساحرة بلا جلبة ولا ضوضاء، على نحو ما يذكر ياقوت الحموي عنه في كتابه «معجم الأدباء» وقد أشار إلى ذلك صاحب «زهر الآداب وثمر الألباب» بقوله: «رأى (بديعُ الزمان) أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد أغرب بأربعين حديثًا، وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، واستنبطها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر». وقد نقل أبو علي القالي بعضًا من أحاديث وقصص ابن دريد، ونرى فيها غرامه بوصف الطباع العربية في القبائل، وكذلك روح الدعابة والفكاهة، وجوانب من الهواجس الجنسية، مثل ما يقع بين الأزواج، ورغبات النساء، فينطقن برغباتهن الجسدية وأمانيهن في الزواج، على نحو ما نجد من نماذج من أحاديث ابن دريد المذكورة في كتاب «الأمالي» لأبي علي القالي.
ونرى أن المقامات حكايات مبتدعة من مؤلفيها، وهي متخيلة أي لا تستند إلى واقع حقيقي، بل منشئة لأهداف إبداعية، وأيضا للتسلية والإمتاع، وبالتالي هي ليست قصصًا حقيقية، على نحو ما نجد في كتب سردية كثيرة، مثل «البخلاء» للجاحظ أو «نشوار المحاضرة» للتنوخي؛ فمعيار قبول هذه القصص لدى المتلقي هو درجة صدقيتها وواقعيتها، وليست درجة إبداعها.
هذا، ويمتاز أسلوب المقامات بالأحاجي لغوية وتراكيب بلاغية، وألفاظ مستهجنة، بجانب طرافة موضوعاتها ما بين الألغاز، ومواقف التسول والدعابات، وهذا لا يتناسب مع طبيعة الفرج بعد الشدة، حيث التركيز فيه على مواقف الأزمات وأسباب الفرج، فلا مجال للتلاعب اللغوي، ولا لروح الدعابة، كهدف وحيد مرتجى منها.
على صعيد آخر، فقد تقاربت المقامات مع أغلب الأشكال القصصية السائدة في التراث العربي، مثل اعتمادها على طريقة التوثيق التي نجدها في مطلع المقامة، حيث تبدأ المقامة بـ«حدثنا فلان» ويقصد به الراوية الذي يحكي عن البطل صاحب المغامرات والقصص والمواقف، وهي تتنوع ما بين: حدثني، حدثنا، أخبرني، ويتعجب المتلقي من لجوء مؤلف المقامة لهذه الطريقة، وهي قصص مؤلفة من الخيال، ولعل السبب وراء ذلك أن المقامة متأثرة بالطابع الشفاهي التي كانت تلقى فيه، فهي مرتبطة منذ نشأتها بالمجلس أو المقام، وقد كانوا جماعة يتحلقون ويستمعون القصص من الراوي، فهي إذن الحلقة التي يدور فيها حديث متميز أو بالأدق قصة تروى. وبالتالي فإننا نرى أن لفظة أخبرنا أو حدثنا لا تعني شيئًا ذا بال في المقامة، لأنها مخترعة، وإنما تعطي إيهامًا لدى السامع أن الراوي يتحدث جديًا – بعض الشيء- عن بطل المقامة، فربما يعطيها هذا بعض المصداقية، أو أن مؤلف المقامة، سار على عادة الرواة والقصاصين في عصره من ذكر بعض السند للقصص، حتى يتحقق القبول لدى المتلقي، ولكنه سند محدود أو مكذوب، فلا السارد صادق في ما يرويه، ولا المتلقي مصدق لما يلقى عليه.
نقلا عن القدس العربي