لا عدّ تنازلياً لاستعادة “عاصفة السوخوي”، والأرجح أنها لن تعود، على الأقل بالزخم نفسه الذي شهدته أشهر ما قبل الهدنة التي لم تتوقف عن الترنّح، ولم يراهن عليها فعلياً سوى الروس، الذين اعتقدوا أن ما حققوه يكفي لإطلاق العملية السياسية في جنيف بنجاح، وهو ما لم يتحقق.
كما أن الروس لم يتوقفوا عن تمديد الهدنة منذ أن حدّد لها وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو حداً نهائياً في 25 أيار الماضي. لكنها المرة الأولى التي تتقاطع فيها مؤشرات على احتمال استعادة جزء من العملية العسكرية الروسية، والتنسيق مجدداً مع الجيش السوري، منذ أن قرر الروس من جانب واحد وقف عملية حلب وفرض الهدنة حتى على دمشق التي قبلت بها على مضض، ولا تزال تثير توتراً بين الثنائي الروسي ـ السوري.
وتسود في أوساط الجيش السوري، والمؤسسة السورية، مرارة فقدان فرصة تحقيق انتصار كبير، خصوصاً في ريف حلب الشمالي، وقلب موازين القوى في كل معركة سوريا. ذلك أن ما تمّ تحقيقه، على أهميته، في ريف اللاذقية وأرياف حلب الجنوبية والغربية والشرقية، لم يؤدِ إلى انتزاع مدينة أساسية كإدلب أو جسر الشغور، وإلحاق هزيمة نهائية بالمجموعات المسلحة. كما أنه لم يحقق الهدف الذي أعلنه الروس أنفسهم للعملية في تشرين الثاني الماضي، بضرورة الوصول إلى الحدود التركية ـ السورية قبل كل شيء، واعتبار إغلاق المعابر وطرق الإمداد مع العمق التركي شرط أي حل، وهي رؤية تخلى عنها الروس. بل إن الهدنة الروسية أفسحت المجال أمام المجموعات المسلحة، وأميركا والسعودية وتركيا، لإعادة تنظيم صفوفهم، وتسليحهم وبناء أكثر البنى التحتية التي دمّرتها العمليات الروسية السورية ـ المشتركة.
ويمكن القول إنها المرة الأولى التي يتقاطع فيها موقف العسكر مع الديبلوماسيين الروس حول ضرورة وضع حد لاستنزاف المصداقية، وهو ما قد يمهّد لاستعادة الخيار العسكري جزئياً. لكن لن تكون أهداف العملية، إذا ما استعيدت، بوضوح سابقتها أو بطموحها الذي يتوقف الآن عند الذهاب إلى عزل “جبهة النصرة” عن بقية المجموعات المسلحة، واختبار “السوخوي” أو العمل الميداني المباشر، لإضعاف المجموعات المسلحة، وليس لهزيمتها. إذ يوازي عزل “النصرة” عن بقية المجموعات المسلحة، وهو هدف معقد وصعب، ضرب العمود الفقري لهذه المجموعات، لما تشكله “جبهة النصرة” من قوة عسكرية وإيديولوجية في قلب هذه المجموعات.
ويتقاطع موقف جناحي الإدارة الروسية، العسكري والديبلوماسي، في العودة إلى الميدان مع توافق وزير الدفاع سيرغي شويغو، على اعتبار اختبار الهدنة فاشلاً، ومهلة قبول الفصائل المسلحة بالابتعاد عن “جبهة النصرة”، مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف. إذ قال لافروف إن “موسكو لم تتخل عن قرارها ضرب الزمر المسلحة التي لم تلتحق بالهدنة في سوريا”.
وذكّر لافروف، في مقابلة مع صحيفة “كومسومولسكايا برافدا” الروسية نشرت أمس، أن المهلة التي منحتها موسكو للمسلحين تشارف على الانتهاء. وقال “لقد طلبت منا الولايات المتحدة تمديد المهلة أيام عدة، قبل سريان الخطة التي أعلنا عنها سابقاً، والتي سيصبح وفقها كل من لم ينضم للهدنة هدفاً مشروعاً، بغضّ النظر عما إذا كان مدرجاً على قوائم الإرهابيين أم لا. لقد طلب منا الأميركيون منحهم بضعة أيام إضافية كي يقدموا ردهم لنا، فيما تنتهي مهلتنا الإضافية هذا الأسبوع”.
وهذا مؤشر يساعد على توضيح آلية اتخاذ القرار بشأن سوريا، والذي يقع وسط تجاذب داخل المؤسسة التي تحيط بالرئيس فلاديمير بوتين، بين العسكر الذين يؤيدون العودة إلى الميدان، فيما يراهن جزء واسع من الخارجية الروسية والمشرفين على إطلاق العملية السياسية، من سيرغي لافروف أو ميخائيل بوغدانوف على مواصلة العمل من اجل تسوية، وانتهاز ما يعتقدون أنه فرصة وجود الرئيس الأميركي باراك اوباما في البيت الأبيض، ورغبته بتحقيق انتصار في سوريا على “داعش” وقناعتهم بأنهم لن يحصلوا على تسوية أفضل في المستقبل للبقاء في سوريا، والذهاب إلى حل سياسي قبل نهاية العام الحالي، وقبل أن تخلف إدارة اوباما إدارة أخرى أكثر تشدداً.
لكن هذا الرهان يصطدم بحقيقة أن الإدارة الأميركية لا تزال ترفض مجرد التنسيق مع الروس في العمليات العسكرية ضد الهدف المشترك: “داعش”، سواء في الرقة أو في الشمال السوري، وأن أقصى ما أمكن الحصول عليه هو مساكنة روسية ـ أميركية جوية في سماء سوريا. إذ يسود شرق الفرات الطيران الأميركي، فيما يغلب الإسناد الجوي الروسي غرب النهر. كما أن الأميركيين لم يتوقفوا، لا خلال العملية العسكرية الروسية، ولا بعد الهدنة عن إعادة تسليح المجموعات المسلحة، ورفدها بما يقارب الثلاثة آلاف طن من الأسلحة، وتدريبها وتنظيم أركانها وعملياتها، لاستنزاف الروس في سوريا، وهو الهدف الواضح حتى الآن لسياسة اوباما، والذي يمنع الذهاب نحو أي حل سياسي، في إطار السعي الأميركي لمحاصرة روسيا. بل إن واشنطن طلبت من روسيا عدم ضرب مواقع “جبهة النصرة”.
ويقول لافروف إنه سأل نظيره الأميركي جون كيري، في واحدة من المكالمات الهاتفية، حول السبب من وراء توقف التحالف الدولي بقيادة واشنطن عن استهداف الإرهابيين في سوريا. وقال إن نظيره الأميركي جدد نفس التسويغات التقليدية “انطلاقاً من منطق غريب يعتبر أن مواقع الإرهابيين تتشابك مع مواقع الأخيار الذين لا يتوجب استهدافهم”.
ويبدو أن التجاذب داخل الإدارة الروسية لاستعادة المبادرة العسكرية يقترب من نهايته مع دخول الإدارة الأميركية أشهرها الأخيرة. ورغم أن تغييراً لم يطرأ على حشد المجموعات المسلحة في الشمال السوري، بات لافروف يرى أن الأميركيين يخدعونهم، وأن “التحالف الدولي يقف مكتوف الأيدي، في الوقت الذي يستمر فيه تدفق الإرهابيين والأسلحة عبر الحدود السورية ـ التركية. مما لا شك فيه أن الإرهابيين يستعدون لشن هجومهم منتهكين بذلك الاتفاقات الدولية وقرارات مجلس الأمن”.
ومن دون ضجيج مماثل لـ “عاصفة السوخوي” الأولى انزل الروس، هذا الأسبوع، قوات برية ومظلية في ميناء طرطوس، لدعم أكثر من ثلاثة آلاف متطوع روسي أرسلوا خلال الأسابيع الأخيرة، لإحياء زخم التنسيق مع الجيش السوري. وهو مؤشر إضافي على الاستعداد لإطلاق عملية واسعة، قد تشمل الرقة، التي لا يريد الروس إخلاء الميدان فيها للأميركيين وللأكراد وحدهم، وأرياف حلب التي يضغط الإيرانيون لإطلاق عملية كبيرة حولها لقطع طريق الإمداد إلى شرقها واستعادة خان طومان، التي أصيبوا فيها بنكسة كبيرة.
وتقول مصادر سورية إن الروس أعادوا إلى قاعدة حميميم هيئة الأركان، التي كانت تنسق عمليات الإسناد الجوي في الخريف الماضي، وأن هؤلاء بدأوا التحضير لعمليات جديدة.
السفير