توالت، في السنتين الماضيتين، على الأرض نجاحات وحدات حماية الشعب، القوة العسكرية الكردية الأساسية في سورية، والتي تُعرَف بأنها الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي. تمكّنت من التفوق على الجهاديين في أكثر من موقعة مشهودة، مثل معركتهم ضد جبهة النصرة في بلدة رأس العين، ثم دفاعهم عن عين العرب (كوباني) ضد هجمة تنظيم داعش، والتي ساندتهم فيها طائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، ولاحقاً توسّعهم في الشمال السوري، وعلى طول الحدود التركية السورية.
لكن هذا التوسع دقّ ناقوس الخطر عند الأطراف المتصارعة، خصوصاً إيران وتركيا اللتين تعانيان من “مسألة كردية” لم تُحَل بعد، وهو ما يجعل الخصوم يتفقون ضد القوة العسكرية الكردية لتحجيمها، ووضع سقفٍ لطموحها الكبير.
هناك مسألة كردية لم تحل داخل المنطقة، لكن هذا لا يعني تماثل الظروف والأوضاع الخاصة بالأكراد في كل من العراق وسورية وإيران وتركيا.
قدّم الباحث محمد جمال باروت عرضاً تاريخياً مهماً في بحثه في كتاب “مسألة أكراد سورية”، وأوضح الفارق بين “أكراد الدواخل” في سورية وأكراد الأطراف، إذ ينحدر أكراد الدواخل من أصول أيوبية، كما من عشائر كردية تتركّز في الأطراف، ويظهر وجودهم في حي الأكراد في دمشق، وفي جبل الأكراد في عفرين شمال حلب، فيما قدم أكراد الأطراف في موجات هجرة من تركيا، بدأت في منتصف عشرينيات القرن المنصرم باتجاه الجزيرة السورية (بالتحديد نحو محافظة الحسكة حالياً)، نتيجةً مواجهات كبيرة بين قوى كردية ثائرة والحكومة التركية، على خلفية رفض الأكراد سياسات الصهر القومي التركية.
اندمج أكراد الدواخل في الإطار الوطني السوري، وتوسّعت طبقتهم الوسطى، مع اشتغالهم بالتجارة وعملهم في الوظائف المدنية والعسكرية، كما أنهم ساهموا بفعاليةٍ في التصدّي للاحتلال الفرنسي، وفي الثورة السورية الكبرى، وقد تعرَّب بعضهم، وانخرطت شخصياتٌ عديدة منهم في العمل الوطني ومواجهة الاحتلال الفرنسي، مثل علي زلفو آغا، وإبراهيم هنانو.
بقي أكراد الأطراف في إطار عشائري، وارتبط مجتمعهم في الجزيرة السورية بزعاماتٍ عشائرية، حاول الانتداب الفرنسي استغلال بعضها لبناء كيان كردي – كلدو آشوري مستقل ذاتياً، ضمن التصور الفرنسي للتقسيم الإثني/ المذهبي للمناطق السورية، وتمثل هذا في قيام حركة الجزيرة الانفصالية عام 1937، لكن قادةً أكراد أساسيين واجهوها، بالتنسيق مع الكتلة الوطنية في دمشق، وأحبطوها، ليسقط المشروع الانفصالي في الجزيرة السورية.
اندمجت النخب الكردية في العمل السياسي السوري بعد الاستقلال، وظهرت شخصياتٌ كردية متعرِّبة عديدة بين الضباط الأساسيين في مرحلة الانقلابات. يفنّد باروت أساطير مخترعة حول التمييز ضد الأكراد في سورية، ويشير إلى مراحل تاريخية بسيطة، تم التفكير فيها أو اتخاذ إجراءات تجاه تجنيس أكراد الجزيرة السورية.
لكن، في المجمل، لم يعان الأكراد تمييزاً ضدهم، بوصفهم أكراداً في الخمسينات، وخلافاً لما يُشاع من نزوع قومي عربي للتمييز ضد الأكراد، كانت القوى القومية العربية مشجعةً القوى القومية الكردية على تأسيس تنظيمها الأول عام 1957 لمواجهة الأطماع التركية. وفي مرحلة الجمهورية العربية المتحدة، تم تخصيص ركن كرديٍّ في إذاعة صوت العرب. وعلى الرغم من أن هذا تم لأغراضٍ سياسيةٍ، متعلقة بالصراع الإقليمي، كما يلحظ باروت، إلا أنه يعبر عن غياب سياسات تمييزية ضد الأكراد.
يشير باروت إلى أساطير حول التمييز، مثل مشروع الحزام العربي في الجزيرة السورية، ونقل سوريين عرب إليه في بداية السبعينات، بعد أن غمرت مياه بحيرة الأسد أراضيهم. ويؤكّد أن عدد المنقولين لم يتجاوز 24 ألف نسمة حداً أقصى، وقد حصل هذا من دون تهجير أي فلاح كردي، أو أي تغيير في التركيبة السكانية للجزيرة السورية. يؤكد الباحث، أيضاً، أن مفهوم “كردستان الغربية” الذي يدل على الأراضي التي يقطنها الأكراد في منطقة الجزيرة والشمال السوري مخترع، ولم يكن لا في أدبيات القوميين الأكراد تاريخياً ولا خرائطهم، إذ إن كردستان التاريخية عندهم هي بين تركيا وإيران والعراق. يعزو باروت انتعاش مفهوم كردستان الغربية إلى مرحلة حصار العراق ثم غزوه عام 2003، وتأثير نشوء إقليم كردستان العراق على المجتمع الكردي في سورية.
هذا السرد التاريخي مهم للقول بضرورة التفريق بين احترام الخصوصية الثقافية الكردية داخل دولةٍ وطنيةٍ ديمقراطية، وهو مطلبٌ لابد من التأكيد عليه، بل وحل المسألة الكردية بالتزامن مع حل المسألة العربية، وتقرير مصير القوميتين ضمن تسويةٍ تاريخيةٍ كبرى، ومحاولة تضخيم مظلوميةٍ تاريخية، أو اختراعها، واستخدامها من قوى سياسية كردية في ضرب مفهوم الدولة، وتعويم مفهوم “المكونات” على الطريقة العراقية، حيث يتقاسم النفوذ مكوّن قوميٌّ مع مكونات مذهبية (سنة وشيعة)، ضمن التصور الغربي الاستعماري للمنطقة.
لا يكون التسليم بحقوق الأكراد على حساب العرب، بتغيير ديموغرافي يخلق مناطق كرديةً نقية ويهجّر السكان العرب، كما أن النضالات القومية التحرّرية لتقرير المصير لا يجب أن تتخذ من القوى الاستعمارية ظهيراً، لا من ناحيةٍ مبدئيةٍ، ولا من ناحيةٍ براغماتية. وقد رأينا كيف فاجأ الأميركيون القوة العسكرية الكردية، بتفاهمٍ مع تركيا، يعيدها إلى شرق الفرات، ليؤكّدوا، كما فعلوا مراراً في حالاتٍ متعدّدة، أن الرهان عليهم حماقةٌ سياسيةٌ كبرى.
العربي الجديد – بدر ابراهيم