ستة أعوام من سنوات الثورة السورية وما زالت قلوب الناس في سوريا تنبض بالأمل وألسنتهم تلهج بالدعاء والأماني بأن يكون الغد أفضل، تشرق فيه شمس الحرية التي لطالما حلموا بها وهتفوا لها، على عدد شعر رؤوسهم في ساحات وشوارع وزواريب المدن والبلدات والقرى السورية، وبعد الأعوام الستة تتفاجأ بأن هناك أناسا مازالوا يتساءلون “شو الي صار لنا من الثورة، ما جابت لنا غير الخراب”.
أيعقل بأننا لم ندرك إلى الآن حجم التغيير الذي حدث في نمط حياتنا وشكل معيشتنا وطريقة تفكيرنا ونظرتنا للعالم؟!
في الحقيقة علمتنا الثورة أشياء صغيرة لكنها كثيرة ودقيقة وصغير الحجم دقيق التفصيل هو في النهاية عظيم التأثير دعونا نسوق بعض الأمثلة عما علمتنا الثورة ولنرى هل تخلفنا وتراجعنا خلال هذه الثورة كما يروج النظام وأبواقه الذين ما يزال الكثير منهم يعشعش حول مسامعنا أم أن الثورة دفعت بنا نحو تجرير نكهة جديدة من المعيشة بتفاصيل دقيقة؟!
انظر على مستوى شراء الخضار سابقا، كان أحدنا وبوصفه رب منزل يذهب مع بداية الأسبوع إلى سوق الهال فيكتال ما يسمح له جيبه وواسطة نقله من الخضار والفواكه تكفي أهل بيته أسبوعا كاملا، ودايما تفيض وترمى بعد أن تفسد الآن ضمن الثورة ونظرا لظروف الحرب والقلة والفقر والحصار بتنا نذهب إلى دكان الخضار المجاور لمنزلنا ونأخذ البندورة بالحبة، والخيار والبطاطا بالكيلو.. كذلك وربما نريد خسة واحدة أو إذا أخذنا الخيار، فبلا الخسة اليوم.
لم نعد نخجل من ذلك ونعده نقصا أو بخلا بتنا نعلم بأن الدول الأوروبية هذا قانونها، الشراء بالحبة وعلى قدر الحاجة كل يوم اشتري الشيء الازم فلا يفيض فيفسد، وبذلك يبقى طازجا شهيا, الأمر نفسه حصل بالمؤن الشتوية التي أصبح الكثير منا يقللها حتى النصف تحت ضغط القلة فاختفت من عندنا ظواهر كانت مألوفة لدينا سابقا نهاية فصل الشتاء فكم كانت تؤثر فينا مناظر أكوام الزيتون أو المكدوس التالفة والمرمية على أطراف حاويات القمامة بطرا وترفا وقلة في تقدير نعمة الله عز وجل التي بتنا الآن أكثر من أي وقت آخر نعي قيمتها.
أمر آخر علمتنا إياه الثورة وأقصد معشر النساء ألا نقف مكتوفي الأيدي تجاه مصيبة الموت مسلمين خانعين ومتسائلين ما الذي سيحل بنا فقد أكسبتنا الثورة درسا في التحمل والصلابة (مات زوجي أعرف أن أدبر أموري أعمل مهما كانت شهادتي أو تحصيلي العلمي حتى ولو مستخدمة في إحدى مشاريع الثورة الكثيرة.. ولا أمد يدي لأحد أعيل أبنائي لم أتنكر او أنس زوجي أو ابني أو حتى أهلي الذين فقدتهم جميعا ولكن الحياة في الحرب هكذا تتطلب.. نستمر في الحياة ما دام فينا نفس يصعد وينزل.. فانتشرت المشاريع الخاصة بعمالة النساء في كل مكان.
وتشبه تجربة النساء السوريات هنا تجربة النساء الألمانيات خلال وبعيد الحرب العالمية الثانية اللواتي عانين ما نعانيه ولم تتوقف الحياة عندهن أبدا.
ومن أفضل ما أكسبتنا الثورة أيضا شعورنا بأن العالم يقف تحت قدمينا فليس هناك مستحيل بل كل مستحيل يمكن أن يصبح واقعا من صنع أيدينا وبإصرارنا تعلمنا أن المدرسة ليست المكان الوحيد الذي يمكن لأطفالنا أن ينالوا العلم منه الشارع أيضا الذي منه انطلقت ثورتنا يعلم الكثير (أناشيد القاشوش والساروت) وأماكن العمل أيضا وحتى أماكن القتال أصبحت مكانا مناسبا لأبناء الخمسة عشر عاما يطرقونها دونما وجل من موت محتم إن لم يذهبوا إليه داهمهم وهم خانعون، علمتنا الثورة بأنه من المعيب أن ننظر إلى التطور بالاكتفاء بطفلين، فالإنجاب هو سنة في الأرض وهو واحدة من الغايات التي أوجدنا الله من أجلها وأحس كل من كان يريد التطور الواهي سابقا خلال ثورتنا بفداحة خطئه فترى الآن مشافي النساء كل دقيقة تعج بالحياة وتتعالى بها أصوات بكاء المواليد بل لربما صرخاتهم متأهبين لحياة صعبة المسالك، لكنهم سيكونون من (خرجها)، ليبقى وجودنا مستمرا غير منقطع بفعل شلة جاهلة أرادت أن تكم أفواهنا وتدفننا تحت حقد غارات طائراتها.. ومن تحت الركام دائما تولد الحياة.
كما وقدمت لنا الثورة تجارب رائعة في الإدارة الذاتية للمناطق المحررة فمجالسنا المحلية كانت أكثر من رائعة، بغض النظر عن كل ما يحكى ويروى عن حجم السرقات والتجاوزات، فقد خدمت وأدارت شؤون نواحيها في ظل غياب مؤسسات الدولة في كل القطاعات من النظافة ومشاريع المياه واشتراكات الكهرباء والقطاع التعليمي الخاص وأهم شيء القطاع الصحي الذي أصبح أشبه بالمجاني.
وقد ينادي البعض فقدنا الأمان فأقول لهم لو كانت ظروف الحرب الطاحنة والتنوع الطائفي الذي تمتلكه سوريا دائرا في دولة أخرى لما تجرأ أحدهم على إخراج رأسه من باب بيته، والشمس تحتل كبد السماء، لكن الثورة علمتنا وأثبتت لنا بأننا شعب متحضر راقٍ معطاء وكل حوادث خلل الأمن التي نسمع بها لا تساوي شيئا يل كانت موجودة قبل قيام الثورة والدليل جرائد الجرائم التي كانت تصدر كل يوم في المدن الكبرى وكان أبي يحضرها لأمي ذات الشهادة الابتدائية وكانت تعشق قراءتها، وربما يتفاجأ بعضكم عندما سأقول بأن معدل الجريمة في حلب مثلا قبل الثورة وفي ظل الطوق الأمني الخانق للأسد كان ثمانية جرائم قتل يوميا.. إذا ما زلنا بخير ومازلنا الشعب الأفضل.. شوارعنا رغم أوتوستراد الطيران الذي فوقها مليئة بالخضار والفواكه والسيارات وحركة البشر، ومدارسنا مليئة بالطلاب وأصوات المدرسين رغم استهدافها المتكرر كل يوم، وابتسامتنا لا تكاد تغادر وجوهنا رغم أن الدموع قلما تفارق أعيننا.
وخلاصة القول إن الثورة لم تبخسنا حقنا فلا نسمح لأنفسنا بأن نبخسها حقها وسيأتي اليوم الذي ستشرق فيه شمسها وتمحو ظلام ليل دامس لكن لا بد منه.
المركز الصحفي السوري – شاديا الراعي