” سارة ” .. طفلة بريئة و جميلة بحجم تلك البراءة، تعيش في مدينة طنجة مع أخت لها تبلغ الثالثة من عمرها، و أمها الأربعينية، تلقت سارة صفعة مدوية من الحياة و هي في الثامنة من عمرها، حين أدركت أنها ستواصل ما تبقى من عمرها بلا أب، علمت أن سندها في الحياة لم ولن يعود، إنه على قيد الحياة، لكنه في عيون هذه الأسرة مات و دفن .
بعد أن تخلى عنهم بلا رحمة، بقيت الأم هي المعيل لهذه الأسرة تعمل في إحد المعامل بالمنطقة الصناعية، سلاحها في ذلك ابتسامة بناتها عندما تعود للمنزل في المساء، محملة ببعض الحلوى، تنتظر بفرح نهاية الشهر عندما تعود بما يكفيهم لدفع الإيجار وتوفير الطعام ومصروف البنتين، خصوصا و أن الحياة في مدينة كطنجة عصيبة جدا.
بقي الحال كذلك، إلى أن بلغت سارة الرابعة عشر من عمرها، لم تتحمل أن ترى أمها تواجه مصيرهم لوحدها، و قررت أن تساعدها خصوصا وأن الأم تزداد كبرا في السن، و تقل صحتها جراء العمل الشاق، فالوقوف يوم كامل في حر الصيف وبرودة الشتاء لم يكن سهلا، رق قلبها لحال أمها و بحثت عن عمل، عملت في المنازل و المعامل والمقاهي .. و كل عطلة تقضيها في العمل عونا لأمها على شقاوة العيش، وكلما كانت تكبر كان يكبر معها إحساس الكره والحقد تجاه الآباء، أولئك الذين يتخلون عن فلذات أكبادهم ويروحون أدراج الرياح دون أدنى تفكير في النتائج، تحمله مسؤولية كل ما يحدث لهم، تقول سارة والحزن بادي على محياها : ” إذا كان بر الابناء للآباء فرض و واجب ديني، فبر الآباء لأبنائهم فرض، كذلك لا يقل أهمية على سابقه ومن حقي كطفلة أن يكون لي أب يتحمل مسؤولياته تجاهي ” .
بقيت الأسرة تتخبط بين مجريات هذه الحياة، همها الوحيد عيش حياة كالحياة، تحمل بصيص أمل في مستقبل أفضل، خصوصا بعد تفشي وباء كورونا المستجد، الذي أودى بحياة الكثيرين، وكذلك حجم التأثير الذي أحدثه حظر التجوال في المدن، مما زاد الطين بلة، ازدادت المعاناة واتسعت هوة الحاجة وبدأ اليأس يتسلل إلى القلوب، و بقيت سارة بين مطرقة الوحدة والفقر والخوف من الوباء والمستقبل.
في زمن الكورونا، استقبلت سارة عيد ميلادها الثامن عشر و لم يتغير شيء في حياتها، روتين ممل يتكرر بتكرار الأيام، تذهب للدراسة و وقت الفراغ تشتغل لتساعد أمها، هذا قبل حظر التجول، أما الآن فلم يعد للأسرة الصغيرة الصمود في وجه هذه التحديات، وأصبح أمل العودة للحياة الطبيعية همهم الشاغل، فقد ضاق الحال و لم تستطع الأسرة توفير حتى لقمة العيش في هذه الظروف، و لم يعد لوعة الشوق للأب والعتاب له فقط من يلاحق الأسرة بل ازدادت الحاجة والازدراء إلى القائمة السوداء.
تقول الأم بعيون ذابلة ” أريد أن أربي بناتي في أحسن، لا أعلم كيف سنجتاز هذه المصيبة؟ كم يمكننا الانتضار أكثر من هذا؟ “، لم تكن الأم وفتاتها ممن يستطيعون العمل من منزلهم و الحصول على أجرة ولا حتى توفرها على أدنى وسائل الترفيه، بل أسرة تعيش ظروف قاسية وسط مجتمع لم يعد يأبه بأحد .
في حوار مع سارة سألتها عن سبب تخلي الآباء عن ابنائهم ؟؟
أجابتي بحسرة و دمعة سيالة ” آه لو كنت أعلم، أصبحت ضحية ذلك ولا دخل لي، أتمنى أن يتوقف كل أب لا يتحمل المسؤولية عن التكاثر”.
_قلت لها ” و ما العمل الآن؟؟
أجابتني بإبتسامة تحمل الأمل ” سأنهي دراستي و أحقق أحلامي، لن أستسلم “.
قلت لها : فلتفعلي إذن وفقكي الله .
ضاهرة التخلي عن الأبناء ازدادت كثيراً في واقعنا العربي، ولا بد من دق ناقوس الخطر لأجل ذلك، لما له من نتائج وخيمة على الفرد والجماعة، حان الوقت لاستيقاظ الضمير الإنساني و إشعال فتيلة الأبوة في نفوس هؤلاء للحد من هذا الواقع .
بقلم : صليحة أضبيب