بعد سلسلة الأحداث الإرهابية التي ضربت العاصمة الفرنسية باريس في 13 نوفمبر/ تشرين ثان 2015، دخلت عموم البلاد في حالة طوارئ مرّ عام على تطبيقها لأول مرة منذ الحرب الجزائرية في خمسينيات القرن الماضي.
وحمل عام الطوارئ هذا، تداعيات سلبية، بينها ما طال المسلمين في فرنسا التي تحتضن أكبر جالية مسلمة (تتراوح نسبتها 5-8% من السكان البالغ عددهم 66 مليونا)، من خلال تشديد الرقابة عليهم أو إغلاق مساجد لهم، فيما كانت نتائجه بحسب تصريحات رسمية إيقاف مئات الأشخاص المشبته بهم وكذلك مداهمة آلاف المواقع.
وحالة الطوارئ نظام استثنائي أقره قانون صدر في فرنسا عام 1955، ضمن الإجراءات التي اُتخذت في إطار حرب الجزائر آنذاك، وكانت تلك المرة الأولى في القرن العشرين التي تُعلن فيها.
وتمنح حالة الطوارئ صلاحية استثنائية للسلطات مثل حظر التجوال وتقييد حركة المواطنين ومنعهم من التجمعات العامة، وإعطاء الحق لقوات الأمن لمداهمة المنازل في أي وقت دون الحصول على إذن قضائي، وفرض الإقامة الجبرية على أشخاص يشكلون خطرا، وجميعها قيود لا تتماشى مع الدولة الفرنسية التي طالما تباهت بأنها الأفضل أوروبيا في مجال الحريات وحقوق الإنسان.
وبجانب إعلان الطوارئ التي تم تمديدها لاحقا حتى فبراير/شباط 2017، علقت فرنسا اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية والتي تنص المادة 15 منها على أنه “في حال حرب أو خطر عام آخر يهدد حياة الأمة، يمكن لأي من الدول الموقعة للاتفاقية اتخاذ إجراءات تخالف الالتزامات الواردة فيها”.
وبعد الصدمة الاجتماعية التي عاشتها، سنّت فرنسا تشريعات صارمة في إطار الحرب على الإرهاب، وشهدت البلاد صعوداً لليمين المتطرف وعودة الجدل حول الهوية الوطنية للبلاد.
ومنذ ذلك التاريخ دخلت فرنسا التي تعرف نفسها بأنها بلد الحريات وحقوق الإنسان، حقبة جديدة يتم فيها تحديد آفاق السياسة وفقا للحرب على الإرهاب، لتقدم في المقابل تنازلات فيما يتعلق بالملف الحقوقي.
وفي 13 نوفمبر/ تشرين ثان 2015، شهدت العاصمة الفرنسية سلسلة هجمات إرهابية منسقة شملت عمليات إطلاق نار جماعي واحتجاز وقتل رهائن في مسرح “باتاكلان”، وكذلك ثلاثة تفجيرات انتحارية في محيط ملعب بضاحية باريس الشمالية الذي كان يشهد مباراة كرة قدم بين المنتخبين الفرنسي والألماني، بحضور الرئيس فرانسوا أولاند.
كما شهدت باريس في هذا اليوم تفجيرا انتحاريا آخر وسلسلة من عمليات القتل الجماعي بالرصاص في أربعة مواقع، وخلفت تلك الهجمات 130 قتيلا و400 جريح.
وعقب تلك الهجمات التي صدمت العالم، ذكر بيان صادر عن قصر الإليزيه، أن الرئيس أولاند أعلن الطوارئ في البلاد وإغلاق حدوده، ثم عدل لاحقا إلى “عدم إغلاق الحدود، وإنما استئناف مراقبة الحدود”.
واعتبر أولاند تلك الهجمات “بمثابة إعلان حرب ضد فرنسا”، في حين قال رئيس الوزراء مانويل فالس، إن “منتسبي أحد الأديان أعلنوا الحرب على البلاد، وحتما سنرد عليهم”.
وعقب قرار مراقبة الحدود، تكون فرنسا قد علقت فعليا نظام “شنغن” الذي يعد أحد أهم مكتسبات هدف “أوروبا بلا حدود”.
وبلغت التدابير الأمنية التي بدأت عقب الهجوم على صحيفة “شارلي إيبدو” خلال الأيام الأولى من ذات العام، ذروتها بعد هجمات آخر العام، ما أثار الجدل حول تلك التدابير مع استهداف تنظيمي “القاعدة” و”داعش” الإرهابيين للبلاد.
واعتبر مسؤولون فرنسيون أن سبب استهداف “داعش” لفرنسا، هو قرار أولاند في 8 سبتمبر/ أيلول 2015، بتوسيع العمليات العسكرية في العراق، لتشمل سوريا.
– تغييرات جلبتها حالة الطوارئ
ومنذ اليوم الأول من حالة الطوارئ، تم تفعيل سرعة الإجراءات القضائية والتحقيقات والتوقيفات والمداهمات.
وقال وزير الداخلية الفرنسي، برنار كازنوف، في تصريحات صحفية مؤخرا أن بلاده دخلت مرحلة جديدة في مكافحة الإرهاب، مشيرا إلى مداهمة الشرطة لـ 4 آلاف و71 موقعا خلال عام واحد.
ولفت إلى أن الشرطة أوقفت 426 شخصا خلال تلك المداهمات، صدر بحق 94 منهم أحكام قضائية، وعلى 95 آخرين حكم بالإقامة الجبرية في منازلهم.
وبيّن أن بلاده منعت دخول 201 أجنبيا إلى أراضيها، في حين أنها منعت مغادرة 430 آخرين.
وأعلنت الحكومة الفرنسية عن “عمليات فعّالة” في مكافحة الإرهاب بسوريا والعراق ضد تنظيم “داعش”.
– إغلاق مساجد
ومع تفعيل حالة الطوارئ فتحت الحكومة الفرنسية تحقيقًا مع العديد من الجمعيات والمؤسسات الدينية في البلاد.
وأغلقت السلطات الفرنسية حتى اليوم أكثر من 20 مسجدًا في عموم البلاد، فضلًا عن المؤسسات والجمعيات الدينية، بدعوى أنها تساعد على نشر خطابات متطرفة، بحسب وسائل إعلام فرنسية.
وذكرت تقارير إعلامية أن السلطات الفرنسية حققت خلال فترة تطبيق حالة الطوارئ مع مئات الأشخاص المقيمين على أراضيها، منهم أطفال ومسنون بمبررات “سخيفة”، على حد وصف الإعلام المحلي.
وأكّدت باريس مرارًا إصرارها على التقليل من خطر الهجمات الإرهابية الناجمة عن “المقاتلين الأجانب” داخل البلاد، وأجرت في هذا الإطار العديد من التعديلات القانونية وخطوات رامية لكشف الأسباب الاجتماعي والسياسية للتطرف.
وفي معرض تقييمه لحالة الطوارئ على خلفية هجمات نوفمبر، قال رئيس مجلس العدالة والمساواة والسلام (غير حكومي) في ستراسبورغ، علي غيديك أوغلو، إن هذه الحالة الخاصة “أضرّت جدًا بالمسلمين وأماكن عبادتهم ونشاطهم هناك”.
ولفت في حديث للأناضول إلى أن الحكومة الفرنسية تتبع رقابة على الآيات القرآنية خلال الخُطب والدروس الدينية في المساجد، الأمر الذي يجبر الأئمة والخطباء على تجنب قراءة الآيات المتعلقة بالجهاد والتبليغ والحجاب لعدم التعرض لاتهامات التطرف.
– تعديلات قانون الإرهاب
وأدخلت فرنسا تعديلات على قانون الإرهاب وأتاحت لفرق الشرطة صلاحية المداهمات خلال ساعات الليل، ومراقبة المشتبه بهم 4 ساعات قبل اتخاذ قرار بتوقيفهم، ووضع أجهزة تسجيل صوتية ومرئية في السيارات والمنازل وأماكن العمل.
كما أتاحت استخدام البيانات المخزنة في الحواسيب الشخصية، والأقراص الخارجية، والهواتف النقالة في منطقة ما، بهدف جمع المعلومات الإستخباراتية في إطار العمليات الرامية لمكافحة الإرهاب.
وأغلقت السلطات حتى اليوم 54 موقعًا إلكترونيًا على الانترنت بتهمة مدح الإرهاب والترويج له، ووسعت مفهوم الجريمة ليشمل الأمن الوطني والنظام العام والسياسة الخارجية والمسائل المتعلقة بالمصالح الاقتصادية والعلمية.
– فرنسيون لا يزالون تحت الصدمة
من جهة أخرى، أظهرت نتائج استطلاعات للرأي في فرنسا أن شريحة واسعة من الشعب يرى أن السلطات لم تكافح الإرهاب بشكل كاف رغم جميع التعديلات والإجراءات القانونية المتخذة في هذا الإطار، وذلك نتيجة لصدمة الهجمات الإرهابية.
وأشارت الاستطلاعات إلى أن نصف السكان يتخيّلون لحظة الهجمات مرة واحدة على الأقل كل أسبوع، وأن 53 بالمئة منهم يعتقدون بأن عمليات مكافحة الإرهاب لا تسير بشكل فعّال وكافٍ في البلاد.
بدوره، قال رئيس المعهد الوطني للبحوث الاستراتيجية، أركان تانري كولو، إن خطابات التطرف والعنصرية تشكل خطرًا كبيرا على مستقبل فرنسا، وإن المسلمين هم الفئة الأكثر سعيًا للتأقلم مع حالة الطوارئ وهم الأكثر تضررًا منها.
وأضاف في حديث للأناضول أن “المسلمين في فرنسا يتعرضون لاتهامات وتوقيف غير عادلة وإغلاق لأماكن عباداتهم حتى أن الهجمات التي يتعرضون لها باتت حدثًا عاديًا لا يثير الاهتمام، وعلى الحكومة أن تنتج حلولا لتحقيق السلام والأمن الاجتماعي”.
الأناضول