- بلد تعرض لخمسة أعوام من الحرب بكل ما تحمله الكلمة من معنى, فقد بها أكثر من 80%من بنيته التحتية, وتهجر أكثر من أربعة ملايين شخص, كان لابد لأهلها من العودة قروناً إلى الوراء, تماشياً مع الظروف ومتطلبات الوضع, فلا تجد منطقة تتوفر فيها الخدمات بشكل تام, أو تستطيع العيش كما كانت الحال في الماضي, وإن من أهم ما تأثر بشكل سلبي القطاع الصناعي, فلم تعد المواد متوفرة, ولم تعد الكهرباء موجودة, وهذا ما شكل عبئا كبيراً على كاهل الصناعيين والعمال السوريين.
في ريف ادلب عادت حرفة الحدادة إلى الوراء عشرات السنين, فتحولت الحرفة من الحدادة الإفرنجية التي تعتمد على الكهرباء, إلى الحدادة العربية التي تعتمد بشكل أساسي على الفحم والنار.
وعندما تزور سوق الحدادين في معرة النعمان, تظن أنك في سوق يعود للقرن الثامن عشر, فتتخيل نفسك في بغداد أو القاهرة, فهنا أصبح اعتماد الحدادين بشكل رئيسي على الحدادة العربية, فلا ترى إلا “الكيران” وهي مواقد النار المشتعلة’ ومطارق الحديد تهوي على قطع الحديد الملتهبة، وعن هذه المهنة حدثنا المسن ومعلم الحدادة العربية العم “أسعد الحداد” قائلا: “أنا عملت في الحدادة العربية, ولكن هذا منذ زمن, ثم انتقلت إلى الحدادة الافرنجية, وبقيت أعمل فيها حتى قيام الثورة وانعدام الكهرباء في منطقتي ما اضطرني للعودة للحدادة العربية, وقد أصبح استيراد الحديد أمر صعب من مناطق النظام, فقررت أن أعود إلى الحدادة العربية, وذلك لتوفر مستلزماتها, ومعرفتي وخبرتي الطويلة بها”.
لم يستطع الحدادون الاستعاضة عن الكهرباء النظامية بالكهرباء عن طريق المولدات, وذلك لأن هذه الكهرباء مكلفة وتحتاج لإصلاحات جمة, ناهيك عن اضطراب المحروقات من ناحية توفرها, وانقطاعها لفترات طويلة.
وعن توفر مستلزمات الحدادة العربية سألنا معلم الحدادة “عامر” فأجاب: “هذه المهنة تحتاج للفحم الحجري وكتل الحديد, اللذين نستوردهما من تركيا, وكلتا المادتين متوفرتين, وجلبهما من تركيا أسهل من جلبهما من مناطق النظام, حتى أننا استعضنا عن الفحم المستورد من الخارج بالفحم المستخرج من محطات التكرير النفطية الصغيرة في شرق سوريا”.
كل مهنة لا تعتمد على الكهرباء فهي تحتاج لوقت أكثر ولجهد أكبر, وهذا هو حال القطاع الصناعي في المناطق المحررة, وبالنسبة للحدادة التي تعتمد على الكهرباء أو الحدادة الإفرنجية يمكن لأي شخص أن يعمل بها, ولكن الحدادة العربية على النقيض, في هذا السياق يوضح لنا السيد “فراس عابدين” أحد الحرفيين المهرة: “تحتاج الحدادة العربية لمن يتقنها بشكل جيد, فضلا عن أنها تحتاج لعدد من العمال, من أجل الطرق على الكتل الحديدية, وكذلك فهي مكلفة أكثر من الافرنجية”.
لاقت هذه الحرفة التي تعد تراثا لدى المجتمع السوري رواجا واستحسانا غير متوقع, على الرغم من تكلفتها المرتفعة, حيث أخبرنا السيد “علاء غريب” أحد أبناء مدينة معرة النعمان عن هذه المهنة: “إننا اليوم عندما نطلب من الحداد صنع قطعة ما, فإننا نعرف أن هذه القطعة يتم شغلها محلياً وبأيدي الصانع نفسه, فتعرف مدى جودتها وصلابتها, وتشعر بمدى الفن اللازم لعملها, وأي جهد بذل لإتمامها, فلا تجد سعرها باهظاً, كما أننا نعدها من التراث, ونرحب بعودتها”.
الحدادة هي مهنة من بين العديد من المهن التي تحول فيها السوريون من الثورة الصناعية إلى عصر ما قبل الكهرباء, ولكن تأصل هذه المهن و قدمها في المجتمع يجعلها حاضرة في أذهان السوريين متى لزم الأمر, هذا ما يجعلها بعيدةً عن النسيان والاندثار, وهذا ما أكده لنا العم “أسعد الحداد” بقوله: “أنا ورثت هذه المهنة لأعلمها لأولادي, لا لكي أنساها, ونحن ماضون فيها وسنورثها للأجيال, حتى لو عادت الكهرباء, فهي تراث وإرث, ليست فقط مهنة للكسب من ورائها”.
المركز الصحفي السوري – إيهاب البكور