قامت إحدى طائرات سلاح الجو الاسرائيلي في يوم ١٨ من شهر كانون الثاني الماضي بالاغارة على موكب لحزب الله كان متواجدا في القنيطرة في سوريا. مما أدى إلى مقتل ستة من قياديي الحزب بينهم جهاد ابن عماد مغنية كما أعلن الحزب. ثم أعقب ذلك عملية لحزب الله أطلق فيها صاروخا على قافلة عسكرية إسرائيلية على الحدود اللبنانية أدت إلى مقتل جنديين اسرائيليين حسب المصادر الاسرائيلية.
الملفت هذه المرة هو الانتشار الواسع للنقاشات والتراشقات الاعلامية التي دار فحواها حول مدى مصداقية حالة العداء بين اسرائيل وحزب الله، في حين اعتاد اغلب الشارع العربي فيما مضى على التعاطف مع الحزب في حال تعرضه لهجمات اسرائيلية، أو إلى الاحتفاء والاحتفال بعمليات الحزب ضد اسرائيل.
فقد رأى أغلب الشارع العربي في حزب الله في عام الـ ٢٠٠٠ ذلك الحزب المقاوم الذي استطاع لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي أن يحرر أراض محتلة من خلال المقاومة العسكرية، كما أنه أستطاع في الـ ٢٠٠٦ أن يضع حدا لأسطورة الجيش المتغطرس الذي لا يقهر والقادر على فرض إرادته. الكثير ممن أعرفهم فيما مضى كانوا قد رفعوا أعلاما لحزب الله في دمشق محبة له وفخرا به واعتزازا بإنجازاته في حينها. تلك الانجازات التي كانوا يرون فيها تعبيرا صادقا عن ضمير الأمة المظلومة، تعبيرا يروي تعطشهم للشعور بالكبرياء والنصر في زمن الهزائم والقهر، مما جعل احترام ومحبة الكثير من العرب لحزب الله ظاهرة عابرة للطوائف.
هؤلاء المحبون والداعمون السابقون يتساءلون اليوم: هل هؤلاء المقاتلون الطائفييون الذين يقاتلون إلى جانب النظام السوري المجرم هم نفسهم هؤلاء الابطال الذي صنعوا النصر في عام الـ ٢٠٠٠ وفي عام الـ ٢٠٠٦؟ كيف يمكن لمن قاتل في سبيل قضايا عادلة وحرر الأرض ورفع شعارات تحرير القدس، ونادى برفع الظلم عن الفلسطينين أن يشارك في إحدى أكبر جرائم العصر الحديث وأعتاها ظلما؟
للخروج من حالة الاضطراب في الوعي التي يسببها هذا التناقض يلجأ أغلب المتابعين للشأن السوري للإيمان بوجود مؤامرة وتمثيلية يجري اخراجها بدقة بين اسرائيل وحزب الله. فالبعض يصرح بإن اسرائيل تريد انقاذ حزب الله بعد أن فقد الكثير من مصداقيته في الشارع العربي، والبعض الآخر يعد ماحصل تمثيلية جرى الاتفاق عليها من أجل خدمة مصلحة الطرفين.
وبالتالي، هل من الممكن التفريق بين جرائم حزب الله في سوريا أو مشاركته في الحرب السورية و بين إنجازات حزب الله ضد الجيش الإسرائيلي؟
الانصاف يقتضي التمييز والتفريق. كما أن الموضوعية والفهم السليم يقتضيان تحليل كل حدث في سياقه. أي عدم الحكم على الحدث بشكل مجرد، وإنما أخذ ما خلف الحدث في عين الاعتبار أيضا. ففي السياقات السياسية لا يمكن فهم الواقع بدون الاطلاع على التاريخ وفهم تطور السياق السياسي في إطاره. فحزب الله تم إنشاءه في الجنوب في عام ١٩٨٢ كي يكون الذراع العسكري لإيران. كما صرح الحزب بذلك في أكثر من مناسبة وأشهرها البيان الصادر عن الحزب في ١٦ شباط ١٩٨٥ بأن الحزب “ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة”.
رواده كانوا من الشيعة المهمشين والملتزمين مقارنة بحركة أمل. حيث أن كل أفراد الحزب هم من اللبنانيين الشيعة، ويعتبرون الولي الفقيه في إيران مرجعا دينيا وسياسيا لهم. يقوم الحزب على الدعوة الدينية التي تحرك أتباعه وتضمن له القدرة على التحشيد واستمرار الدعم والمدد. أما على مستوى القيادة فهو اليوم يتبع السياسة الايرانية بشكل كامل وهذا أمر معروف وصرح به أمينه العام حسن نصر الله “سنكون حيث يطلب منا أن نكون”. وبالتالي فإذا اقتضت مصالح ايران قصف اسرائيل أو الصلح معها أو قصف السوريين أو قصف طرابلس ومابعد طرابلس فسيفعل. ومن حيث الخلاصة، فإنه بالنسبة للأتباع والمقاتلون في الحزب فهم يطيعون الائمة الذين يمهدون لظهور المهدي. أما بالنسبة للقادة فهم ينفذون دور وظيفي في إطار منظومة سياسية تنسجم مع معتقداتهم.
وبالتالي، فهل هناك مؤامرة أو تمثيلية كما يميل البعض للاعتقاد؟ الحقيقة أن هناك تقاطع للمصالح أو تضارب للمصالح حسب الحال والظرف. فالعداء بين حزب الله واسرائيل هو عداء حقيقي، ولكن هذا العداء يتحول إلى فعل عدائي (حرب) أو يبقى في إطار السياسة والديبلوماسية حسب ما تقتضيه المصلحة في سياق الصورة الاكبر. أي أن اسرائيل لن تهاجم حزب الله بشكل عنيف يؤدي به إلى سحب قواته من سوريا، لإن ذلك سيعني اسداء خدمة للثوار في سوريا وكذلك لجبهة النصرة في الجنوب السوري. أي من حيث النتيجة سيعني ذلك بالنسبة لاسرائيل تحويل الخطر الملموس والذي يمكن قياسه والتحكم بأفعاله (حزب الله) إلى أخطار مجهولة ولا يمكن حاليا التوقع بماهية تطورها على وجه الدقة (تطور الحال في سوريا). وبالتالي فإن اسرائيل لن تعمل على التصعيد العسكري بما يؤدي إلى إضعاف حزب الله بشكل خطير في هذه المرحلة لإنه يخدم مصلحتها على المدى القريب والمتوسط. كما أن استمرار تورط حزب الله في سوريا سيؤدي بشكل تلقائي إلى إضعافه واستنزافه واستنزاف أعداء اسرائيل الآخرين أو المحتملين على الجانب السوري بدون أن يكلف ذلك اسرائيل حربا جديدة.
وهذا لا يعني وجود مؤامرة أو تمثيلية أو اتفاق تحت الطاولة. وإنما يعني أن هناك تقاطع مصالح موضوعي بين الطرفين بشكل مشابه لتقاطع المصالح الموضوعي الذي ساد العلاقة بين النظام السوري وبين تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام طوال العامين الماضيين.
وفي النهاية لابد من الاشارة إلى أن حزب الله هو ابن بيئته المحلية والاقليمية بشكل كامل. حيث أنه حزب طائفي يمثل مصالح طائفة كانت مهملة ومهمشة على الدوام. ويعمل في ظل دولة يقوم نظامها السياسي على أسس طائفية محضة. ويتحرك في منطقة تستمد دولها وأنظمتها الرئيسية الشرعية من الإيديلوجيات والمعتقدات الطائفية المؤسسة لها: إسرائيل، إيران والسعودية ثم العراق والنظام السوري. وعليه، فليس من الغريب أن نشهد ولادة ونمو وتغول حركات وأحزاب طائفية مثل حزب الله ومثل تنظيم الدولة. فغياب النظرة النقدية للتاريخ في منطقتنا يؤدي إلى إعادة تركيب وتوليد تلك البنى الايديولوجية التاريخية في الحاضر، ولكن بأشكال أكثر تشوها وأكثر همجية نتيجة لانحراف ظروف الحاضر عن تلك التي نشأت فيها البنى التاريخية القديمة.
مركز الشرق العربي – غياث بلال