في ليلة باردة من شتاء عام 2012، كان “سامر” يجلس على أرض زنزانته في سجن صيدنايا، متهالكًا من التعب والجوع. لم يكن يتوقع أن تنقلب حياته بين ليلة وضحاها، من شاب جامعي يدرس الهندسة، إلى مجرد رقم في سجن يخشاه الجميع.
بدأت قصته عندما خرج ذات مساء في مظاهرة سلمية بمدينته، يهتف للحرية مع أصدقائه. لم يكن يحمل سلاحًا، لم يكن يفكر حتى في العنف، فقط صوت يطالب بحقوقه. لكن ذلك الصوت كان كافيًا ليختفي في زنازين النظام.
في الليلة الأولى من اعتقاله، اقتيد إلى غرفة التحقيق، حيث تعرض للضرب المبرح قبل أن يُسأل حتى عن اسمه. كانوا يريدون منه الاعتراف بأنه إرهابي، وبأنه تآمر مع “أعداء الوطن”، لكنه لم يكن يملك ما يعترف به. استمر التعذيب لأيام، وأصبح جسده مزيجًا من الكدمات والجروح، ومع ذلك، لم يفقد الأمل.
بعد شهور من العذاب، نُقل إلى الزنزانة الجماعية، حيث التقى بأشخاص من مختلف الخلفيات، لكن الجميع يشترك في الألم ذاته. كان أحدهم، رجل في الستين من عمره يُدعى “أبو ياسر”، يهمس لهم كل ليلة: “لا تدعوا الخوف يسرق أرواحكم، نحن أقوى مما يظنون”.
في أحد الأيام، قرر سامر أن يكتب رسالة سرية على قطعة قماش صغيرة استخرجها من ملابسه، خطّ عليها بأظافره كلمات قليلة: “ما زلنا هنا، لا تنسونا.” ثم دفعها عبر شق في الجدار، على أمل أن تصل إلى أيادي خارج السجن.
مرت سنوات، والزنزانة لم تفتح إلا لوجبات الطعام النادرة أو جولات التعذيب. سقط الكثير من حوله، أصدقاؤه واحدًا تلو الآخر، حتى لم يبقَ سوى جسده الهزيل وروحه المتعبة. في أحد الأيام، سمع سامر اسمه يُنادى. اعتقد للحظة أن الفرج قد جاء، أن هذه النهاية ستكون بداية جديدة لحياته.
لكن حين اقتيد إلى غرفة صغيرة، أدرك أن لا نهاية سعيدة هنا. قيدوا يديه، عصّبوا عينيه، ثم سمع صوت الضابط يقول بصوت بارد: “لقد انتهت قصتك هنا، لا أحد ينتظرك في الخارج”.
لم يكن هناك وقت للخوف، ولا مجال للمقاومة. دويّ الرصاصة اخترق السكون، وسقط سامر دون أن يُسمع صوته الأخير. لم يكن سوى اسم آخر يضاف إلى قائمة المختفين قسريًا، جسد يُلقى في حفرة جماعية، كأنه لم يكن يومًا بين الأحياء.
لكن الحقيقة لم تمت معه. بعد سنوات، اكتُشفت بقايا جثث المعتقلين في مقبرة جماعية، وعلى إحدى العظام المهشمة، كانت هناك قطعة قماش صغيرة، باهتة لكنها تحمل أثر الكلمات التي كتبها ذات يوم:
“ما زلنا هنا، لا تنسونا”.
وهكذا، حتى وإن سقط سامر، بقيت صرخته في الظلام شاهدة على من رحلوا، وعلى من ينتظرون العدالة في زنازين الموت.
وتُظهر الإحصائيات الموثقة أن عدد المختفين قسريًا في سجون النظام السوري منذ آذار 2011 حتى آب 2024 بلغ 112,414 شخصًا، بينهم 2,329 طفلًا و5,742 سيدة. كما وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان استشهاد نحو 55,000 معتقل تحت وطأة التعذيب في سجون النظام حتى كانون الأول 2024.
هذه الأرقام تسلط الضوء على حجم المأساة التي عاشها المعتقلون في سجون النظام السوري، وتُظهر أن قصة سامر ليست إلا واحدة من آلاف القصص التي تنتظر أن تُروى.