بعد حقبة من التفاهم حول الأوضاع السورية، عادت مياه العلاقات الاميركية الروسية إلى مجاريها الصراعية. وكان بعض المتسرعين قد ظنوا أنها بلغت حقبة انفراج شامل، يغطي جميع مسائل خلافاتهما وصراعاتهما الدولية والمحلية والإقليمية، لمجرد أن جون كيري وسيرغي لافروف توافقا على حل في سورية، على الرغم من أن تفاصيله ظلت محل نزاع بينهما، وأن تعقيداته وتناقضاته دفعت روسيا إلى تكليف جيشها بالانخراط المباشر، وبقواته المتنوعة في الحرب السورية، استباقاً لتوافقها المبدئي مع أميركا، وتقوية لموقفها في الصراع مع خصمها الذي تأمل ما فعله جيشها بدم بارد، لاعتقاده أنه غزا مكاناً تضعف مشكلاته وتناقضات القوى المتصارعة فيه روسيا بدل أن تقويها، وأن غزوه لا يبدّل بالضرورة علاقات القوى الدولية أو المحلية، في المنطقة عامة وسورية بصورة خاصة، ولا يهدّد التفوق العسكري والسياسي الأميركي الذي يغطي الشرق الأوسط بكامله، كما قال فيما بعد دينيس روس، مسؤول الملف الفلسطيني السابق في إدارة بوش، وهو ينتقد سياسة أوباما السورية.
ومع أن أميركا وروسيا جدّدتا في القرار 2254 تمسكهما بوثيقة جنيف 1، مع تعديل تفسيري لفقرات منها بدت معها وكأنها غدت أقرب إلى ما يريده الروس، فإن إشاراتٍ عديدةً ما لبثت أن كشفت أن تعقيدات الحل السوري ترتبط بخلافاتهما أكثر مما ترتبط بالنصوص، وأن هذه الخلافات تزداد بقدر مع كل خطوة يتفقان عليها، وإلا فما معنى أن يتولى بوتين وأوباما شخصيا التفاوض حول تحويل الهدنة المؤقتة التي توصل إليها وزيرا خارجيتهما، الى وقف إطلاق نار دائم؟ وكيف نفهم عدم التواصل بينهما حيال هذا الموضوع، على الرغم من الإعلان الرسمي عن أنهما صارا مسؤولين عنه؟ أعتقد أن هذه الواقعة تكشف، بالأحرى، حجم خلافاتهما حول كل كبيرة وصغيرة في صراعٍ يحاول الروس انتزاع بعض أوراقه من اليد الأميركية القابضة عليها بقوة.
والحال، يؤكد تعذر تطبيق أية صفقة شاملة حول الحل السياسي السوري ما بين البلدين من تناقضات مركبة: محلية وإقليمية ودولية، يصعب وصولهما إلى تفاهماتٍ حولها بسبب رهانات واشنطن الدولية والإقليمية، المتصلة بالأحداث السورية، وصراعاتهما الاستراتيجية التي يرفض البيت الأبيض حلها من خلال المدخل السوري، وموازين القوى التي أقامها الطرف الأميركي في الساحات السورية والإقليمية والدولية، من أجل التحكم منفرداً بالحرب أطول فترة ممكنة. أخيراً، أضيف إلى هذه العوامل عنصر إضافي، هو أن الغزو الروسي لسورية أضعف موسكو تجاه واشنطن، بدل أن يمكّنها من الضغط عليها، أو إجبارها على فتح حوار يسوّي مشكلاتهما البينية المباشرة التي لم تبد سياسات أميركا أي رد فعل إيجابي تجاهها، بل اعتبرتها عاملاً يتيح لها استنزاف قدرات روسيا، وإنهاك اقتصادها المنهك بالحصار، وعزلها دوليا.
واليوم، تبدو موسكو أمام الحاجة إلى مراجعة وضع زجّت بنفسها فيه، قد تتحول إلى تنازلاتٍ تقنع واشنطن بربط الحل السوري بتسوية مسائل خلافهما الاستراتيجية التي سيعين نوع تفاهمهما عليها مكانة موسكو في الواقع الدولي.
والآن، والحل في سورية يرتبط أيضاً بحل مشكلات الدولتين التي تزداد تعقيداً على المستوى الدولي، ويتباعد التفاهم عليها في المستوى السوري، تطرح علينا أسئلةً ربما كان أهمها بالنسبة إلى سورية السؤال: هل تدفع موجة الشد والجذب الاستراتيجي الجديدة واشنطن الى استبدال سياسة الاحتواء البارد الذي مارسته حيال التدخل الروسي في سورية، بسياسات احتواء حار ونشط، يقنع بوتين بالكف عن تعنته الذي يعطل الحل السياسي، وبالتخلي عن وهم إنقاذ الأسد ونظامه ؟ هذا السؤال لا بد ان يكون محل حوار جدي في أوساط المعارضة السورية، استنادا إلى معلومات وافية ودقيقة تجمع من مصادرها الأصلية ومن أهل الخبرة الذين يعرفون الديبلوماسية الدولية ومشكلاتها العميقة، أكانوا سوريين ام أجانب.
أخيراً، ألا تمس حاجتنا، اليوم أيضاً، إلى وضع ذاتي يقنع واشنطن وموسكو باستحالة أي حل لا يلبي مطالب الشعب السوري، وبأن سورية قادرة على العيش دون الأسد ونظامه، وأنها ستحمي نفسها والعالم من ما تتعرض له من إرهاب؟
العربي الجديد – ميشيل كيلو