عندما أعلن الرئيس الأمريكي سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، لم يكن يغدر بحلفائه الأكراد فقط، بل إنه كان أيضا يغدر بمصالح شركات النفط الأمريكية. ونظرا لقوة جماعات الضغط النفطية، فإنه سرعان ما تم تعديل قرار ترامب، لضمان بقاء قوة أمريكية تتولى السيطرة على آبار النفط والغاز في محافظتي الحسكة ودير الزور الغنيتين بالنفط والموارد الطبيعية.
ردا على ذلك أعلنت روسيا، أن جميع القوات الأمريكية في سوريا يجب أن ترحل، لأنها قوات احتلال دخلت بدون طلب أو موافقة من الحكومة السورية، واتهمت القوات الأمريكية بأنها تقوم بدور اللص لسرقة النفط السوري وتسهيل تهريبه. ويتردد أن الدخل الشهري من إيرادات تصدير النفط السوري بواسطة الجماعات الكردية يصل إلى 30 مليون دولار. إيران أيضا تطالب برحيل كل القوات الأمريكية من سوريا، ومن المنطقة بشكل عام، على اعتبار أن وجودها يمثل تهديدا للأمن القومي الإيراني.
وبعد الرفض الروسي والإيراني لبقاء قوات أمريكية في سوريا، دخلت ألمانيا على الخط، باقتراح لإنشاء منطقة آمنة دولية في شمال شرق سوريا بمشاركة روسية، وقد رد الروس على الفور برفض التدخل الألماني، بحجة أن الروس والأتراك قد اتفقوا على ترتيبات بشأن الحدود التركية ـ السورية. ومع ذلك فما تزال ألمانيا تروج للفكرة وتعتزم طرحها للمناقشة في قمة حلف الأطلنطي المقبلة، التي ستعقد في لندن في الأسبوع الأول من ديسمبر. صراع هذه الأطراف جميعا، روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا وألمانيا والحكومة السورية والأكراد، يطرح سؤالا كبيرا عن المصالح التي تربطها بمنطقة شمال شرق سوريا، وتوزيع النفوذ الأجنبي هناك؛ فهل تستحق حقول النفط التي تنتج الآن ما يقرب من 30 ألف برميل يوميا، ولم يتجاوز إنتاجها قبل بدء الحرب الأهلية حوالي 500 ألف برميل يوميا كل هذا الاهتمام الدولي، كما لا يزيد حجم الاحتياطي فيها عن 0.2% من الاحتياطي العالمي؟
الإجابة التي تفسر هذا التزاحم والصراع، تتجاوز حقول النفط والغاز الحالية في سوريا، وتتحدد في متغيرين رئيسييين، أولهما موقع سوريا، الذي يتحكم في الطريق بين إحدى أهم مناطق إنتاج النفط والغاز في العالم (الخليج)، وأسواق الاستهلاك الضخمة في أوروبا. هذا الموقع يمكن أن يوفر، عند إقرار السلام، ممرا اقتصاديا استراتيجيا لأنابيب تصدير النفط والغاز، من الخليج والعراق وإيران إلى أوروبا عن طريق تركيا، أو من خلال موانئ سوريا ولبنان بواسطة الناقلات. كذلك فإن سوريا، من الناحية الجيوستراتيجية، هي دولة الجوار العربية التي ترتبط بحدود برية وبحرية مباشرة مع دول حلف الأطلنطي تركيا وقبرص واليونان
روسيا، معنية بالبقاء في سوريا لأسباب عسكرية استراتيجية، خصوصا بما يضمن بقاء القاعدة الجوية المتقدمة في حميميم، والقاعدة البحرية في المياه الدافئة في طرطوس. كما تأمل روسيا في الحصول على النصيب الأكبر من عقود إعادة الإعمار في سوريا، على غرار ما فعلت الولايات المتحدة في العراق، بعد إسقاط صدام، إضافة إلى توسيع قاعدة مصالح شركاتها في ثروات الغاز في المنطقة الممتدة من شرق البحر المتوسط وحتى العراق والخليج. شركات النفط الروسية بادرت فعلا بإبرام عقود مع إقليم كردستان العراق، ومع الحكومة السورية، وكذلك مع العراق وإيران، ومع شركة إيني الإيطالية التي تستخرج الغاز من شرق المتوسط. وقد حصلت شركة سويوز الروسية للنفط والغاز على امتياز بقيمة 100 مليون دولار لمدة 25 عاما، للتنقيب عن النفط والغاز في امتياز منطقة (عمريت) البحرية السورية في شرق البحر المتوسط.
إيران، معنية بتعزيز مرافق وتسهيلات النقل البري إلى موانئ شرق البحر المتوسط في سوريا ولبنان. ويعتبر معبر (القائم- البوكمال) على الحدود العراقية ـ السورية أهم منافذ عبور التجارة والأفراد بين العراق وسوريا. وكان المعبر يخضع لسيطرة «داعش» منذ عام 2013 تقريبا وحتى عام 2017. وبعد خروج قوات «داعش» من المنطقة، بدأت جهود إعادة بنائه حتى تم إعادة افتتاحه رسميا في نهاية سبتمبر 2019. كذلك وقعت إيران مع كل من العراق وسوريا اتفاقا في يوليو عام 2011 ، لإنشاء خط أنابيب لتصدير الغاز، من حقل فارس الجنوبي الذي يتم تطويره حاليا، إلى سوريا. وعلى الرغم من أن العمل في إنشاء هذا الخط لم يبدأ حتى الآن، بسبب ظروف الحرب، فإن استقرار الأوضاع في سوريا، سيشجع على البدء فيه، وربما يشجع أيضا شركاء آخرين للإسهام في تكلفة تمويله التي تصل إلى 10 مليارات دولار، حسب التقديرات السابقة، وربما تتجاوز الآن 15 مليار دولار. ومع أن التصميم الأصلي للخط يقوم على أساس إنشاء معامل لإسالة الغاز في سوريا، ثم تصديره إلى أوروبا كغاز مسال، فإن وجود تفاهم بين إيران وتركيا، ربما يشجع على مد خط الأنابيب من شمال غرب سوريا إلى داخل تركيا، ومن هناك يتصل بمركز تجميع الغاز الطبيعي الروسي، وهو ما يتيح تصدير الغاز الطبيعي في صورته الأصلية إلى أوروبا، ما يقلل تكلفته، ويزيد قدرته التنافسية.
وكانت قطر هي أول من طرح فكرة تصدير الغاز الطبيعي، من الخليج إلى أوروبا، عام 2005 تقريبا، عبر خط أنابيب يمتد من قطر إلى الأردن عبر السعودية، ومن الأردن إلى سوريا، ثم إلى لبنان حيث يتم تصديره من هناك، أو بمد خط الأنابيب من سوريا إلى تركيا، بما يمنح الغاز الطبيعي القطري أفضلية في أوروبا على الغاز الطبيعي الروسي. بشار الأسد رفض الفكرة، ثم توقفت تماما بعد عام 2011. ومع ذلك، فإن قطر ما يزال في إمكانها إقناع إيران بضخ جزء من الغاز القطري، المنتج في الحقل المشترك بينهما، عبر خط الأنابيب المقترح من إيران إلى العراق وسوريا، وذلك لتجنب مشكلة المرور عبر السعودية، في حال استمرت المقاطعة السعودية لقطر.
الولايات المتحدة، التي تسعى للمحافظة على مصالح شركاتها النفطية وزيادة فرصها في المنطقة، كما تطمع في المشاركة في أعمال إعمار سوريا بعد الحرب، التي تقدر بحوالي 200 مليار دولار على الأقل، وربما تصل إلى تريليون دولار، تسعى في الوقت نفسه إلى تقليل اعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي الروسي. وتتضمن الاستراتيجية النفطية الأمريكية حاليا، أن تصبح الولايات المتحدة موردا رئيسيا للنفط والغاز إلى أوروبا. وتحصل دول الاتحاد الأوروبي من روسيا حاليا ما يقرب من 25% من احتياجاتها من الطاقة. كذلك فإن الولايات المتحدة تشجع منتجي الغاز الآخرين في شرق البحر المتوسط، مثل إسرائيل ومصر وقبرص، على مد خط أنابيب بحري إلى أوروبا، لتغذية شبكات الغاز الطبيعي هناك بجزء من احتياجاتها. لكن إنشاء مثل هذا الخط ما يزال يعاني من عقبات سياسية ومالية وفنية. ويعتبر دخول روسيا شريكا في عمليات التنقيب عن الغاز في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، سواء بشراء شركة روسنفط حصة من امتياز شروق في مصر من شركة إيني الإيطالية، أو بالعمل مباشرة في التنقيب والاستخراج عن طريق شركة سويوز في المنطقة البحرية السورية، من أكبر التحديات التي تواجه الولايات المتحدة في هذا السياق. يضاف إلى ذلك احتمال تدفق الغاز الإيراني إلى أوروبا عن طريق سوريا أو تركيا.
ألمانيا، من ناحية أخرى، ما تزال تعتمد على النفط والغاز في الحصول على حوالي 60% من احتياجاتها من الكهرباء. ولذلك فإنها تعمل على ضمان تدفقات متنوعة من الغاز، على التوازي مع الاستمرار في خطة التحول من الوقود الإحفوري إلى الطاقة النظيفة (الشمس والرياح والوقود العضوي). ويمثل شرق المتوسط والخليج بالنسبة لألمانيا، الخيار الإستراتيجي الأفضل، لموازنة واردات الغاز من كل من روسيا والولايات المتحدة. ومن هنا يمكننا فهم دوافع الموقف الألماني، الحريص على استمرار التفاهم مع إيران.
الاستنتاج الرئيسي الذي نخلص إليه هنا، هو أن الإحتياطي الحالي من النفط والغاز في سوريا، لا يبرر هذا الصراع المحموم للسيطرة، أو البقاء هناك من جانب القوى الرئيسية في العالم والقوى الإقليمية الكبرى، نظرا لأن هذا الاحتياطي حاليا لا يتجاوز 2.5 مليار برميل من النفط، وهو ما يقل عن 0.2% من الاحتياطي العالمي المؤكد. لكن يمكن تفسير هذا الصراع المحموم على سوريا، بواسطة متغيرين جوهريين، أولهما الأهمية الجيوستراتيجية لسوريا، المجاورة بحريا وبريا لحلف الأطلنطي. ثانيهما، أهميتها الاقتصادية، التي توفر معبرا بريا لتصدير النفط والغاز من إيران والعراق والخليج بالإنابيب، إلى أوروبا عن طريق تركيا، إضافة إلى احتمالات تحقيق اكتشافات للغاز في المناطق البحرية قبالة الساحل السوري، وكذلك ضخامة عقود الإعمار المتوقعة عند إقرار السلام.