منذ الصباح الباكر أيقظني اليوم هاتف من منطقة الحدود السورية التركية تطلب فيه مني إحدى المساهمات في إنتاج فيلم سورية: الصرخة المخنوقة، أن أتحدث مع إحدى النساء اللواتي قدمن شهاداتهن في الفيلم عن عمليات الاغتصاب الوحشية والمنهجية التي تتعرض لها المعتقلات السوريات.
قالت لي: إنها تكاد تنهار نفسيا وأود أن تتحدث معها وتخبرها كم كانت شهادتها ثمينة لخدمة القضية السورية وفضح نظام القتل والاغتصاب الجماعي الأسدي.
لم تتوقف السيدة عن البكاء خلال المكالمة، ليس لذكريات العذاب الذي تعرضت له في زمن الاعتقال، ولكن لما تتعرض له من شماتة وتشهير وحرب نفسية يشنها أفراد يدعي بعضهم الحرص على سمعة نساء سورية، ويلومونها على ما قامت به من حديث علني عن الاغتصاب، بينما يتهمها البعض الآخر بالتكسب من شهادتها في الفيلم ونيلها الملايين لقاء المشاركة فيه.
هؤلاء ليسوا سوريين ولا يمكن أن يكونوا بأي حال ثوريين، بل بشرا أسوياء.
أولا: ينبغي على هؤلاء أن يعلموا أن ما تعرضت له النساء السوريات من جرائم اغتصاب جاء عقابا لهن على مشاركتهن في الثورة أو رفضهن القبول بجرائم القتل الجماعي التي يقوم بها النظام ضد شعبهن. إن ما قمن به هو أعظم أشكال النضال وأكثرها نبلا، حيث ضحين بأنفسهن من أجل حرية شعبهن ووطنهن. وهي تضحيات لا تقدر بثمن ولا تختلف أبدا عن تضحيات الشهداء المقدسة عند كل الشعوب.
ثانيا: إن الشهادة أمام الملأ والرأي العام عما تعرضن له من إعمال وحشية مع العلم بمدى تأثير هذه الشهادة على حياتهن في المجتمع، هي من أعمال الفداء، التي فدين بها أبناء جنسهن وشعبهن عندما قررن أن يكشفن للعالم طبيعة ما يجري في سجون الاحتلال الأسدي، وقبلن أن يتحملن ثمن هذه الشهادة في مجتمع تنحو غالبيته إلى اتهام الفتاة ومعاقبتها مهما كان الحال والسياق.
ليس ما تعرضت له هاته النسوة معصية ارتكبنها حتى يجبرن على التستر عليها، ولكنها جريمة يجب الكشف عن مرتكبها ومحاسبته ومعاقبته عليها. أما الشهادة أمام العالم عن حقيقة ما يجري في سجون الأسد فهي بطولة ومأثرة تستحق عليها النساء اللواتي تجرأن عليها الثناء والمكافأة المعنوية، ولو كان هناك معارضة منظمة حقيقية، التعويض المادي أيضا. فما تعرضهن له دفاعا عن حقوق شعبهن هو من أشكال الظلم الكبير، الذي ينبغي الاعتراف بحصوله وتعويض أصحابه لا العقاب عليه.
ما تتعرض له نساؤنا اللواتي امتلكن شجاعة فاقت شجاعة الأبطال، في المشاركة في الثورة أولا ، ثم في الصمود أمام جرائم الاغتصاب، وبشكل أكبر في الشهادة عما جرى لهن لانقاذ من بقي من النساء المعرضات للأمر نفسه في سجون الاحتلال، بسبب جهل بعض السوريين وتخلف وعيهم، هو عقوبة إضافية ربما لا يقل ألمها عن العقوبة الأولى التي أنزلها السجان والمحتل فيهن، لأنها تأتي من طرف أؤلئك الذين كان من المفروض فيهم أن يساندوا الضحية ويسندوها في سعيها للوقوف على قدميها لا العمل على الإجهاز عليها.
بدل تكبيل بطلات فيلم الصرخة المخنوقة بعار الاغتصاب، الذي هو قبل أي شيء آخر نتيجة عار السكوت على نظام الأسد الفاشي لعقود طويلة، ينبغي بالعكس تحويلهن إلى أيقونات تماما كما كان يفعل بصور الشهداء والقديسين الذين فدوا عذابات الآخرين وتحملوا عواقبها. هذه الشهادات التي أدلت بها في هذا الفيلم هي أوسمة شرف على صدورهن، وينبغي إحياء ذكرى اغتصابهن كوصمة عار لا تمحى في جبين نظام الخيانة والعار.
وليعلم جميع من تراوده نفسه للوم تلك النسوة البطلات أن صدى هذا الفيلم الشهادة، كان أقوى على الرأي العام من القنابل في تدمير حصون الأسد وأسواره. ومنذ عرض الفيلم بدأت العرائض في فرنسا، وغداً في بلدان أخرى، تنتشر لمطالبة الرئيس الفرنسي بالتدخل لإطلاق سراح النساء المعتقلات في سجون الأسد. وينبغي أن نجعل من هذا الفيلم الشهادة أكبر مدفعية ميدان إعلامية وسياسية، تدك حصون الكذب والخداع وانعدام الإنسانية في ما سمي سورية الأسد المغتصبة كاملة من قبل حكامها قبل أن تغتصب نساؤها.
د.برهان غليون