في منطقة الرميل بالأشرفية، تقف المواطنة والناشطة المدنية باسكال أشقر أمام عددٍ من المباني التراثية المدمّرة بانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب الجاري.
تشير بإصبعها قائلةً “هنا بيت عائلتي القديم لم يعد صالحًا للسكن، وهنا قربه مبنى جيراننا التراثي دُمّر بالكامل على رؤوس أصحابه الذين انتشلوا من تحت أنقاضه جثثًا هامدة”.
تحكي باسكال للجزيرة نت قصة هذين المبنيين اللذين صارا غير صالحين للعيش، وهما يعودان لـ 100 عامٍ خلت، بسقوفهما العالية وشرفاتهما الخشبية العتيقة “التي لا تُقدّر قيمتها التراثية في ذاكرة آبائنا وأجدادنا بثمن”.
تقول “خسرنا في انفجار المرفأ ما لم نتوقعه، في الأرواح والحجر، وهذه المنطقة خسرت سحر أبنيتها التراثية التي صارت دمارًا أو هيكلًا مهددًا بالسقوط”، وتسأل مستنكرةً: هل تعود الأرواح، ومن يعوّض اغتيال تراثنا التاريخي؟
خسائر فادحة
دمّر انفجار بيروت مئات الأبنية التراثية في بيروت، التي بلغت نحو 640 مبنى تاريخيا، و60 منها معرضة لخطر الانهيار الكامل، وهي من بين ما لا يقل عن 8 آلاف مبنى تضررت من الانفجار، بحسب أرقام مديرية الآثار في وزارة الثقافة اللبنانية.
هذه الأبنية التراثية، وهي عبارة عن مساكن ومتاحف وقاعات فنون ومواقع دينية، تقع معظمها في الأحياء التاريخية كالجميزة والأشرفية والتباريز ومار مخايل والكارنتينا، وفي زقاق البلاط وميناء الحصن، ويعود بناؤها للعهد العثماني والانتداب الفرنسي وهي ذات تراث معماري حديث.
ورغم أنّ مديرية الآثار قدّرت التكلفة الإجمالية الأولية لأعمال التصليح والترميم لهذه الأبنية، بما لا يقل عن 300 مليون دولار أميركي، فإنّ نقيب المهندسين في بيروت جاد تابت، يقدّر أنّ القيمة المالية الحقيقية لتكلفتها تساوي ثلاثة أضعاف المبلغ المُعلن “أيّ ما لا يقلّ عن 900 مليون دولار أميركي”.
محاولات الترميم
وقال تابت للجزيرة نت “تُظهر عمليات المسح الشاملة أنّ هذه الأبنية تضررت في هيكلها، وبدءًا من يوم الثلاثاء 18 أغسطس/آب، ستبدأ بلدية بيروت تقديم أرقام عقارات حول المباني الأثرية، من أجل إجراء دارسة أولية لتدعيمها، لأن ترميم المباني الأثرية قد يستغرق وقتًا طويلًا، وفي المرحلة الأولى تحتاج لتدعيم سريع، قبل حلول فصل الشتاء، كي لا تصبح في مرحلة أكثر خطورة”.
والترميم لا يمكن أن يحدث عشوائيا وسريعا، لأنه يحتاج لدراسة فنية متأنية ولدعم مالي ضخم، وفق تابت الذي أضاف “بحسب قيمة التمويل الخارجي المخصص للترميم والبناء، يمكن الرهان على عودة بيروت إلى سابق عهدها، ولا سيما أنّ الناس في حالة اقتصادية صعبة والدولة مفلسة، وإن لم يحصل لبنان على تمويل خارجي، فلن يستطيع فعل شيء لإنقاذ أبنيته التراثية”.
هول كارثة الانفجار الذي لحق بأبنية بيروت التراثية، يتجلى في شوارع الجميزة ومحيطها، التي كانت تشبه في سحرها الأحياء الأوروبية القديمة. وفي جولة على طول امتدادها المستطيل، تتكشّف آثار الضرر والدمار التي لحقت أبنيتها الحجرية العتيقة، على السقوف وزجاجها البلوري الملون والقناطر والشبابيك الخشبية وحدائد الشرفات المزخرفة.
دمار التراث
عند درج مار نقولا صعودًا، ينجلي مشهد أبنية بيروت التراثية، وكأنّها صارت بأسقف مشوّهة أو من دونها، في حين القراميد (الطوابق) الحمراء لبعض هذه الأبنية تحولت حجارًا متطايرة. ولدى الوصول إلى حيّ سرسق التراثي، يظهر حجم الدمار الذي طال بيوتًا قديمة وبوابات خشبية عملاقة.
داخل متحف سرسق الذي بنته عائلته الارستقراطية في عام 1912، قبل أن يتحول إلى متحف عام 1961، ثم يعود ليفتح أبوابه عام 2015 بعد ثماني سنوات من ترميمه، دُوّن على أحد جدرانه التي تروي قصص أعماله الفنية وقطعه ومنحوتاته عبارة “الباستيل أو بريق الحياة”.
لكن “بريق” هذا المكان قد خفت بعد أن أُخلي من جميع محتويات الفنية، وتحولت زواياه إلى مساحة للردم والزجاج المحطّم.
في باحة سرسق “البيضاء” الخارجية، تجلس مديرة المحتف زينة عريضة منهكةً من معاينة الدمار. قالت للجزيرة نت “قبل لحظات من دوي الانفجار الرهيب، كنت مع ثلاثة زملاء داخل المكتبة تحت الأرض في المتحف، شعرنا أن أمرًا غريبًا يحدث، لم يكترثوا بادئ الأمر، ثم احتمينا في مكان بلا شبابيك كي لا تسقط علينا، فنجونا”.
بعد أن أزالت إدارة المتحف نحو 150 قطعة فنية، تضرر منها ما لا يقل عن 25 قطعة، ووضعتها في المخابئ، كانت قوّة عصف الانفجار قد حطمت بوابات حديدية تحت الأرض، يصل عمقها لـ 16 مترًا، كما لم يبق باب خشبي على حاله.
تأسف زينة قائلةً “لم نستطع تقدير حجم خسارتنا المالية في المتحف، فقد عدنا إلى نقطة الصفر ويحتاج لملايين الدولارات بعد أن كلف ترميمه أكثر من 16 مليون دولار أميركي، وهناك أضرار لا يمكن إصلاحها، فيما الأولوية هي تدعيمه وتصليح شبابيكه قبل فصل الشتاء”.
خسارة التراث والمجتمع
في المقابل، يبدو المخطط المدني والأستاذ الجامعي في كلية الفنون والعمارة في الجامعة اللبنانية مصباح راغب، يسعى لبثّ روح التفاؤل، رغم إدراكه حجم “الخسارة الثقافية” والتراثية التي منيت بها بيروت.
ويرى أنّ ردّة الفعل الشبابية، من مهندسين ومعماريين ومجموعات مدنية، كشفت عن حرصٍ استثنائي تجاه الثقافة والمباني الأثرية، وقد هبّوا جميعًا للمسح ورفع الضرر، تمهيدًا لعمليات الترميم المستقبلية. أمّا الخشية الكبرى، وفق راغب، أنّ كلّ ما يُخرّب لا يعود كما كان “بناءً على تجربتنا في لبنان”.
ويقول للجزيرة نت “خسارة الأرواح التي خلّفها انفجار بيروت، ترك أيضًا خسارة كبيرة محتملة في النسيج الاجتماعي للمدينة، وقد أصاب مباني أثرية يسكن بعضها مستأجرون قدامى، فيما بعض أصحاب المُلَّك يطمعون بتهديمها لإعادة بنائها وإخلائها من المستأجرين”.
التحدي الأكبر لإنقاذ المباني التراثية في بيروت، يأتي بعد الانتقال من مرحلة وضع الدراسات إلى مرحلة التنفيذ، التي قد تواجه عرقلة كما عهد لبنان، من القوى العقارية والسياسية التي تضع أولوية لحساباتها الشخصية قبل أيّ شيء، على حدّ قول راغب.
وأضاف “هناك عدة أنواع من العرقلة قد تواجه إعادة ترميم الأبنية التراثية، كتدخلات من المالكين والسياسيين لفرض تعديلات على الخرائط، أو لإعادة أوضاع غير قانونية، أو أن يعلن بعض الملّك عدم رغبتهم في الترميم”.
أمّا ما يجب أن يحصل حفاظًا على القيمة التراثية والتاريخية لبيروت، بحسب راغب، فهو وضع مخطط تنفيذي استنادًا إلى قانون التنظيم المدني، على أن تصدر مراسيم رسمية بناءً عليها، لتنفيذها بقوة القانون.
والسؤال، كم تستغرق من الوقت “بيروت التراثية” لإعادة ترميمها؟
يجيب راغب “قضية الترميم تتعلق بالعوائق المذكورة وغيرها، كما بالدرجة الأولى بالتمويل الذي سيخصص لها. وفي لبنان، غالبًا ما تعطى الدراسات مدّة أشهر، لكنها تستغرق سنوات طويلة، كما حصل في مشروع الإرث الثقافي في طرابلس شمالي البلاد”.
حاليًا، ثمّة دراسات هندسية عدّة متعلقة بالأبنية التراثية يجري العمل عليها من قبل مجموعات مختلفة، وهناك مساعٍ لتوحيد الجهود، ومقترحات متعددة من بينها تقسيم المناطق التراثية في بيروت إلى مربعات، على أن تتسلم كل قطعة جهة أجنبية تمويلية لإعادة تأهيلها وترميمها، في حال تدفقت المساعدات الخارجية.
إذن، ماذا خسرت بيروت التي جسدت لعقودٍ طويلة “الحصن الثقافي” للعالم العربي؟
تعتبر زينة عريضة أنّ بيروت التي كانت قبلة الثقافة والتراث للكُتاب والفنانين العرب، “خسرت كلّ شيء بعد هذا الانفجار، الذي كان أشبه باستهداف لتاريخها”.
ولكي تعود كما كانت، “نحتاج لتغيير حقيقي في النظام، وهذا ما لا نتوقع في ظل انعدام الأمان، وربما نعيد ترميم تراثنا فيُدمّر من جديد، في وقتٍ لم يصحُ اللبنانيون بعد لإدراك حجم الخسارة الثقافية والتراثية في عاصمتهم”.
نقلا عن الجزيرة