“كم من الصعب أن ينتظر الإنسان بصيص أمل يخلّصه ممّ أختاره بملء إرادته وبشكل طوعي”
استهلّت “سلوى” حكابتها بتلك الكلمات والارتباك جليّ على كلّ ملامح وجهها النّحيل البريء. “كان ذلك خياري ولم يكن خياري في آن معاً، فقد كنت كغصن غضّ لا يقوى على مجابهة رياح اتّخاذ القرار بعد”. تلتفت يميناً وشمالاً وكأنّ شبحاً يختبئ بين توصيفات تلك الذكريات التي بدأت تسردها بصوت مرتجف، ” كنت في السابعة عشر من عمري وكانت لا تزال أحلامي أحلاماً مختلطة وغير محددة”.
“سلو يا ابنتي!!!”
“أتانا اليوم خالك خاطباً إيّاكِ لابنه شادي، فما قولك يا ابنتي !!؟”
لم استطع التّفوّه ببنت شفه. ففتاة في عمري لا تستطيع اتّخاذ قرارها بشكل جيد ولا تعرف مقاييس الأمور بسلبياتها وايجابيّاتها لتقارن هذا بذاك وتقرّر على أساسه.
“لا أدري يا أمّي، ما رايك أنت بذلك !!!؟”
“إنّ شادي يا ابنتي أصبح شابّاً لديه عمل ولديه إمكانيّات سوف تكون سبيلاً لتحيي معه حياة هنيئة بعيداّ عن هذا الخوف والرّعب الّذي علينا أن نّعيشه صبحاً وعشيّا”
إنّ شادي ابن خالي غادر البلد إلى تركيا في بداية الأحداث تقريباً وهناك وجد عملاً ينتفع به.
لم استطع البوح بقبولي أو رفضي، فما زالت الأفكار في رأسي تتصارع بين القبول والرّفض، بين الابتعاد عن أهلي والسّفر بعيداً عنهم وأنا الّتي لم أنم قط خارج فراشي في بيتنا كما يفعل الأطفال عادة بخلودهم للنّوم في بيت الجدّ والجدّة. كانت فكرة العيش بعيداً عن أهلي تشعرني بنوع من التّخلي عنهم في محناتهم وقد اعتدنا أن نخاف معاً ونهرع للاحتماء تحت سقف الحمّام معاً عند هدير الطّائرة.
أبي، أخوتي و كلّ من المنزل بارك طلب شادي لأنّهم يعرفونه جيّداً كما قال أبي، فهو ترعرع بيننا مع أخوتي إبراهيم وعمر فهو في عمرهم تقريباً.
يا إلهي ماذا أفعل !!!!
هل أقبل !!!
هل أرفض !!!
كيف سأذهب إلى تركيا !!!ّ؟؟؟
أفكار تأخذني هناك وأفكار أخرى تنقلني إلى عالم آخر من التّخبط والتشوش. تمنّيت حينها أن يجبرني أحد أفراد أسرتي على قرار هو يؤيّده ضمنيّاً ولكنّهم اكتفوا بالنّصح اللطيف وأنا من عليها اتّخاذ القرار. أنا وليس أحداً سواي.
بدا ذلك التّخبّط الّذي تحدثت عنه سلوى واضحاً على ملامحها وهي تستذكر تفاصيل الأحداث وسير الأمور. أخذت رشفة من كأس الشّاي الّذي أظنّه قد برد بيدين مرتجفتين بسبب التّوتر واسترسلت في عالم ذكرياتها المؤلم .
“بعد كل التّخبّط الّذي مررت به ومثل أيّ فتاة لم تعتد على التّفكير بأكثر من اختيار لون بكلة شعر أو لون طلاء الأظافر، لم يكن أمامي سوى أن أشهر موافقتي لأمي وأبي علّني أحظى بما يتسنّى لكلّ فتاة بلغت سنّ الزّواج والابتعاد عن الأهل.
اتّفق أولياء الأمور على التّفاصيل وتمّت الموافقة المبدأية إلى حين مجيئه وإعلانها بشكل رسمي. تمّ السّماح لي وله بالتحدّث عبر مكالمات هاتفية إطمأنّ من خلالها على صحّتي وحاول في بعض كلماته فيها التّلميح عن شوقه لي وهذا ما زرع فيّ شعوراً دفع قلبي للخفقان بشكل غير الّذي اعتدت عليه.
في السابع عشر من شهر تمّوز 2015 ، وبعد صيام شهر رمضان كان يوماً كغيره من الأيّام يحمل خوفاً ورعباً في طيّاته. ويحمل فرحاً للأطفال في اسمه فهو يوم العيد. كان يوماً حافلاً بالأمل بالنّسبة لي فسوف أقابل شادي غير شادي الّذي اعتدت على رؤيته ، شادي اليوم هو خاطبي ومستقبلي في أيّامي القادمة. في الساعة السادسة مساءً من نفس اليوم خفق قلبي مع طرقات الباب التي أذهلني صداها وكأنّي أسمعها أول مرة بعد انقطاع الكهرباء عن المنطقة وإلغاء ما يسمى جرساً. طرق شادي الباب وجرس قلبي ونواقيسه دقّت كجرس كنيسة وطأ ثراها قديساً طاهراً نقيّ القلب والجوارح.
لم أتجرّأ على الاقتراب من الباب، فتح والدي الباب وأصوات ترحيبه بابن حماه خالي وابنه ملأت أرجاء قلبي قبل أرجاء البيت. دخلت لاسلّم على الضّيوف وبريق عيني شادي أصابني بسهام استقر في قلبي لّذي شارف على التّوقف. بدأ الرّجال يناقشون تفاصيل موضوع خطبتنا وحلّقت أنا في عالمي الخاص حيث طرت كفراشة تحوم حول لهيب نور يشعّ أمامها وعدت لرشدي على صدى كلمة “آمين” بعد أن أتمّ الجميع قراءة فاتحتنا وبدأت المباركات والدعاء بالتّمام على خير هي سيدة الموقف. لم تكن الظّروف جيدة وقتها لإقامة خطبة وحفلة فاكتفينا بدعوة بعض الأقارب في بيتنا بعد يومين وألبسني محبساً أطلق لروحي العنان في عالم الخيال والأمل.
زارنا شادي بعد عدّة أيام مودّعاً، فقد حان موعد عودته إلى تركيا وعمله. أهداني حينها شالاً أخضر اللّون مزهراً كأنّه أراد أن يقول لي أنّه سوف يبدأ معي حياة مليئة بالحب والأمل، وأهداني أيضاً جهازاً خليوياً كي يتواصل معي في غربته وغربتي عنه. غادر شادي وبقيت رائحة عطره تملأ المكان تأبى الرّحيل.
بعد شهرين ونصف تقريباً عاد شادي في زيارة عيد الأضحى كي يأخذني معه. سجّلنا زواجنا وأقمنا حفلا خجولاً لإشهار الزّواج كما هو معهود وغادرنا إلى تركيا عبر الحدود بشكل غير شرعي (تهريب). صعدنا تلالاً وركضنا حتّى أشرف قلبي على التّوقف رغم أنّ المهرب أكّد لنا أن الأمر لا يتعدّى مسير ساعة أو أكثر بقليل و عبّر عن ذلك بعبارة المهربين المشهورة “الطّريق مضمون، أنا دافع قسم من المبلغ للجندرما”.
طلبت سلوى من أمها إعادة غلي الشّاي لنا فهي لا تحبّه بارداّ. وبهذا أعطت نفسها فسحة لترشيح ذاكرتها عن أحداث استرسلت في سردها من جديد.
وصلنا تركيا قبيل بزوغ الفجر بسويعات إلي قرية تسامى “نار اللجى” حيث شدّني شكل أضواء المنازل فمنذ زمن لم أشاهد هذا الازدحام من الأضواء مختلفة الألوان والأشكال. أمضينا مع باقي أفراد المجموعة حتى أشرقت الشّمس وانطلقت مع شادي زوجي وملاذي نحو مدينة تدعى “مرعش” حيث سيكون بيتي وقصري. يا لها من مدينة تشبه بروحها مدينة أريحا بجدرانها القديمة وحاراتها المرتفعة.
مرّت الأيام مسرعة ولا يملأ بيتي إلاّ قبولي بمستقبلي وشوقي لأهلي الّذين اعتدت أن أحادثهم عبر هاتفي على الوتس اب أو الماسنجر علّ ذلك يخفّف من وطأة الشّوق والحنين. كان شادي يأخذ هاتفي بين الحين والآخر ليتصفح الفيس بوك على جهازي زاعماً أن هاتفه فرغ من الشحن. وبدأ يسألني أسئلة لم أعتد سماعها من قبل.
“شو سلوى ما كان في حدا بذهنك قبل زواجنا!!؟”
“شو سلوى ما حكا معك شي حدا عالفيس وطلب التعارف!!؟”
ما هذا الذي تهذي به !!! من سوف يكلّمني وكيف لي بغيرك وأنا لم أعرف في حياتي من الحب غير حب أهلي وأخوتي، صلاتي وقراءة القرآن وخصوصاً عند سماع هدير الطّائرة المدوي فوق رؤوسنا. كيف لي بغيرك يا شادي وأنت من زرعت في قلبي حبّ فيروز بكلّ أغانيها لأنها لفظت حروف اسمك في واحدة من أغانيها.
تمرّ ايّام قلائل ويعود شادي لنفس الأسئلة وشكّه المريب الّذي أمسى وحشاً يمكن أن يدمّرنا معاً. أرجوك يا شادي، فأنت تعرف من أكون وتعرف تربيتي وتعرف أهلي وأخوتي وتربينا معاً فهل نسيت !!!!!
يبرر شادي ببعض الكلمات الّتي كانت تقنع وجهي ولا تقنع قلبي وعقلي أبداً فشكّه غير مبرر. أصبحت الأيام ثقيلة على قلبي المنهك ببعدي عن أهلي فكيف والشك يلوح بسواده القاتم أمامي!!!!
تواصلت مع أخته “لما” علّي أحظى بما يجيب عن أسئلتي التي تدور في خاطري.
“اعتاد شادي على التعرّف بعدّة فتيات عبر هاتفه وهذا ربّما ما دفعه لعدم الثّقة والشك ولكنّه يحبّك أنت فلا تخافي فهذه المشكلة ستمرّ كالنّسيم”
صعقت بما سمعت وأحسست أنّ شرياناّ من أوردتي قد تفجّر, ففجّر الدّمع في عيناي.
تبلورت حينها بالفعل دمعات على خدّ سلوى فطلبت منها أن تهداّ وتكفّ عن الحديث علّنا نكمل في وقت لاحق. مسحت دموعها بمنديل خمريّ مطرّز قالت مشيرة له ” هذا اشتراه لي شادي من شارشه (مركز السوق) في مرعش عندما خرجنا للتجول بالمدينة” واستطردت في سردها: انتظرت شادي كالعادة وجهّزت له الطّعام بعد عودته من العمل وفي نفسي قررت مناقشته بشكل هادئ علّه يزيل الشكّ من قلبه ويزيح الغباش عن عينيه. لكنّ ذلك لم يجد نفعاً وكان شكّه في ازدياد. كان يؤلّف قصصاً من خياله المليء بالشّك. في إحدى مرّات تفتيشه المعتادة للجهاز وجد طلب صداقة مرسل لي من قبل شخص لم أعرفه قط وحتّى أنني لم أنتبه لوجود هذا الطّلب أصلاً وجنّ جنونه. من هذا يا آنسة !!! قالها بنبرة أحسست فيها خناجر تنغرز في قلبي وروحي.
وما أدراني من يكون !!! هو ليس في قائمة أصدقائي لأعرف من يكون. راح شادي يصرخ وكأنّ عليّ تحمّل أوزار غيري، فما ذنبي بمن يكون فلان أو غيره.
أنت لست شادي الّذي أعرف، وما ذنبي إن كنت تعرف فتياة يرضين التّحدث ومراسلة من لا يعرفن!!! دهش شادي لما سمع.
وكيف تسمح لنفسك مقارنتي بتلك الّتي ترضى أن ترسل صورتها لك!!!
ما قصدك يا سلوى؟؟؟
أنت تعرف قصدي جيداً.
اخرسي!! قالها والشّرار يخرج من عينيه ورمى هاتفي نحوي كمقاتل بربريّ رمى فريسته برمح مدبّب.
تجمّد الدّم في عروقي وخارت قواي.
– أتحاول ضربي يا عديم الأخلاق !!!؟
-لا ولكنّي الآن سوف أضربك. وراح يضربني وكأنّي نزعن عنه رداء الإنسانيّة. وبعد تلك الحادثة تغيّر شادي إلى شادي آخر. فكلّ يوم مشكلة جديدة تنتهي بتهديده لي بالضّرب وفي الكثير من الأحيان بالضّرب.
راح شادي يختلق المشاكل وأصبحت حياتي معه لا تطاق وصبري ينفذ. كلّ يوم تهديد وصراخ وهو يعلم يقيناً أنّه ملاذي الوحيد في هذه لبلد الّتي لا أعرف فيها أحدا سواه. أحسست بالوحدة القاتلة وكأنّ المدينة كلّها بأبنيتها وشوارعها وقلعتها الأثرية أطبقت فوق صدري ما أذّى لإصابة بانهيار عصبي وبداية السكر كما قال لي الطّبيب وطلب منّي أن أرتاح وأن لا أشغل فكري بأيّ أمر وحتّى أمر خوفي على أهلي الذي زعمت أنّه سبب ما وصلت إليه.
شادي، أنا لم أعد استطيع التّحمل ولابدّ لي من زيارة أهلي أرجوك.
لن تذهبي لأيّ مكان. -أرجوك يا شادي أرجوك. لم يردّ على إلحاحي بغير الرّفض ومضت الأيام وأنا أطلب منه ذلك وخصوصاً أنّ العيد قد اقترب فنحن على مشارف رمضان.
كلّ إلحاحي باء بالفشل ولم أحظى بموافقته ولم يزدني ذلك إلاّ تصميماً على مغادرة دوّامته ولو لفترة وجيزة. وفي آخر مرّة طلبت منه نفس الطلب بزيارة أهلي كانت في سابع أيّام رمضان فأجابني بكلّ برود “إن أردتّ الذّهاب فلك ذلك ولكن لن تعودي إن ذهبت أبداً”.
ما قصدك يا شادي!!!؟؟ – إفهميها كيفما تريدين.
هذا لم يكن في الحقيقة خياراً بين زيارة فتاة لأهلها أو عدمها وإنّما كانت خياراً لحياة جديدة أتحمّل فيها تداعيات قراري أو موت صامت لا يستشعر ألمه سواي.
حسنٌ إذا !! لك ما تريد يا شادي ، سوف أذهب ولن أعود.
طننت للوهلة الأولى أنّه سيطلب منّي التّروّي وإعادة التّفكير بالأمر لكنّه اكتفى بالسكوت والبرود وهنا أيقنت أنّ رحلتي مع شادي شارفت على نهايتها.
في الأول من تمّوز 2016 غادرت تلك المدينة الّتي أبت أن تحتضنني فلفظتني بعد عام حافل بالقهر والشّوق والحنين.
عدت إلى بيتي وأهلي وخوفنا المشترك. أخبرت مّي ما حدث بيني وبين شادي وكأيّ أم لا تريد الخراب لبيت ابنتها كما يقولون.
– دعينا نكلّمه ونرى ما يقول يا ابنتي فهو ابن خالك ولا أظنّه سيقبل أن تنفصلا.
أسكنت أمي جراحي بكلماتها ووافقت إن تحدّثه وتري ما يقول.
-أنا قلت لها يا عمّتي إن ذهبت فلا عودة لها إلى بيتي.
كان جوابه كمن أصدر حكم النّفي عليّ وأنا الميّتة أصلاّ.
نعم أصبحت فتاة مطلّقة ولكنّني أعرف الآن كيف أتّخذ قراراتي. أكملت دراسة الثانوية وأنا الآن في الجامعة وعادت إليّ أحلامي الّتي كادت أن تندثر.
تزوّج شادي بعدي فتاة وطلّقها أيضاً. وطلب منّي أن أفكر بالعودة إليه ولكنّي رفضت، فأحلامي أصبحت أقوى من أن يدمّرها زواج باهت.
محمد المعري/ المركز الصحفي السوري