كان حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا داعما علنيا لاستخدام القوة العسكرية لإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. منذ قطع العلاقات مع النظام السوري في سبتمبر 2011, كانت أنقرة مزودا هاما للمساعدات العسكرية والإنسانية للجماعات المتمردة التي تعمل على امتداد شمال سوريا.
حتى هذه اللحظة, استطاع حزب العدالة والتنمية مقاومة أي تغيير لسياسته بسبب انتصاراته الكبيرة والمستمرة في الانتخابات – حتى مع تجاوز الصراع في سوريا الحدود على شكل هجمات إرهابية وقصف مدفعي وإسقاط للطائرات التركية. القوة الدافعة خلف صنع قرارات حزب العدالة والتنمية كانت الخشية من رؤية منطقة كردية شبه مستقلة في المناطق غير الخاضعة للحكومة السورية في الشمال؛ خاصة تلك التي يحكمها ويسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي اليساري المتطرف (البي واي دي).
للمفارقة, ومن خلال محاولة إبعاد حزب البي واي دي, ابتعد الرئيس رجب طيب أردوغان عن دعوته الشخصية في المنطقة ذات الغالبية الكردية في جنوب شرق تركيا وقوض جهود حزبه السابقة للاستمرار في استقطاب الدعم من الأكراد ذوي الميول الدينية. هذه الدائرة الرئيسة انشقت عن حزب العدالة في الانتخابات السابقة, واختارت بدلا منه التصويت لصالح رابع أكبر حزب سياسي, وهو حزب الشعوب الديمقراطي.
حزب الشعوب والبي واي دي مرتبطان بحزب العمال الكردستاني (بي كي كي), الذي يخوض حرب انفصال ضد الدولة التركية منذ عام 1984. كل من أنقرة وواشنطن بعتبران البي كي كي منظمة إرهابية, على الرغم من أن الحزب شارك في محادثات سلام متعددة مع تركيا. جاء حزب الشعوب في المرتبة الثالثة في صناديق الانتخابات يوم الأحد. نجح الحزب في منع حزب العدالة والتنمية من الحصول على ما يكفي من مقاعدة لتشكيل حكومة متفردة, وأجبر زعيم الحزب ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو على التفكير في حكومة ائتلاف. كما أن نجاح حزب الشعوب أحبط تعهد أردوغان بتغيير الدستور التركي لخلق رئاسة تنفيذية – وهي الخطوة التي يدعمها أردوغان منذ 2011 على الأقل, وذلك من أجل جعل تركيا أكثر كفاءة من خلال تخفيف القيود المفروضة على رئيس الدولة.
كما يعكس نجاح حزب الشعوب نجاح ابن عمومته في شمال سوريا, البي واي دي. منذ صيف عام 2012, سيطر البي واي دي على ثلاث مناطق غير متجاورة – عفرين وكوباني والجزيرة- وذلك بعد انسحاب قوات الأسد. دفع نجاح البي واي دي العسكري أنقرة إلى تبني سياسة العزل السياسي والاقتصادي, حيث تم إبقاء الحدود مغلقة مع هذه الكانتونات, على الرغم من سياسة الحدود المتساهلة التي اتبعتها أنقرة مع المناطق ذات الغالبية العربية الأخرى.
في نوفمبر 2012, اتهم حزب البي واي دي تركيا في دعم عدد من الجماعات المتمردة السورية, بما فيها جبهة النصرة التابعة للقاعدة التي شكلت مؤخرا في سوريا, خلال الهجوم ضد معاقل البي واي دي. دعم تركيا المزعوم لهذه الجماعات, جاء جنبا إلى جنب مع التذمر الكردي حول سياسة أنقرة الحدودية المتساهلة خلال هذه الفترة مما أدى إلى انتشار اعتقاد واسع في المنطقة الكردية بأن أنقرة تدعم المتمردين الإسلاميين بما فيهم النصرة والدولة الإسلامية التي تحمل نفس الأيدلوجيا تقريبا.
وقد أصبح هذا التصور حقيقة في الكثير من مناطق تركيا الجنوبية الشرقية. معظم الأكراد يعتبرون أنه من المفروغ منه أن أنقرة تدعم داعش, وهي نظرة تعمقت كثيرا خلال حصار الدولة الإسلامية لمدينة كوباني في خريف عام 2014. خلال الحصار, حركت تركيا دباباتها تجاه الحدود لاحتواء تمددها ولضمان أن تنظيم الدولة والجماعات التابعة للبي واي دي لن تسعى إلى الاستفادة من الوضع للهجوم على أهداف تركية. الصورة الملتقطة للدبابات التركية المتوضعة على التلال المطلة على المدينة المحاصرة في حين يقوم مقاتلون البي واي دي والطائرات الأمريكية والعربية بقصف تنظيم الدولة عزز شعور الأكراد بالاستياء من حزب العدالة والتنمية وعزز فكرة أن حزب العدالة يستخدم التنظيم للهجوم على بي واي دي للحيلولة دون قيام حكم كردي ذاتي.
التغطية الإعلامية المكثفة للمعركة – حيث تم تصوير مقاتلي البي واي دي على أنهم محاربون من أجل الحرية, بدلا من كونهم “إرهابيون” على صلة بالبي كي كي – كانت مقلقة للغاية بالنسبة لأنفرة ودفعت أردوغان للتذمر من دعم كوباني على حساب مناطق سوريا الأخرى, حيث فشل القصف الجوي المستمر الذي يمارسه الأسد على كتائب المتمردين التي تدعمها أنقرة في جذب انتباه العالم.
قال أردوغان في أكتوبر بأن على الحملة الجوية التي تشن بقيادة أمريكية أن تستهدف كلا من النظام وداعش, بدلا من استهداف داعش لوحدها فقط. ولكن أيا من تصريحاته لم تصرف النظر عن الحقيقة الأكثر قوة المتمثلة في مشهد مئات من جنازات المقاتلين الأكراد في تركيا وهي تعبر القرى الكردية في الجنوب الشرقي. ساهمت هذه الجنازات في حشد الدعم لحزب الشعوب, بسبب وجود الحزب المحلي ومساعدته في الجنازات وارتباط الكثير من السياسيين المحليين مع العديد من القتلى من المحاربين.
هزيمة البي واي دي في النهاية للدولة الإسلامية في كوباني أشعل المشاعر القومية الكردية في المنطقة, خصوصا في المناطق الحدودية التركية ذات الغالبية الكردية التي اتخذها الآلاف من اللاجئين الأكرد ملجأ لهم. كما أدى ذلك إلى زيادة الضغط السياسي الملقى على عاتق حزب الشعوب, حيث يملك الحزب حاليا 81 مقعدا في البرلمان التركي. ينظر الأكراد في المنطقة حاليا إلى زعيم الحزب الكارزمي صلاح الدين دميرتاز للوقوف في وجه سياسة حزب العدالة في سوريا. ولكن على الرغم من نجاح الحزب في الانتخابات, إلا أنه يتوجب عليه الصراع كثيرا من أجل تغيير سياسة حزب العدالة في سوريا.
لا يملك حزب الشعوب الأصوات الكافية لصناعة السياسة, أو تغيير القوانين بصورة مستقلة. كما أنه أوضح أنه لا ينوي الانضمام إلى تحالف سياسي مع حزب العدالة. مما لا يترك لحزب الشعوب الكثير من الوسائل التي يمكنه من خلالها تغيير السياسات, بعيدا عن إثارة جوانب مثيرة للجدل حول سياسة حزب العدالة علانية في البرلمان. عند القيام بذلك, سوف يتصرف حزب الشعوب كحزب معارض تقليدي, وربما يفرض التغييرات من خلال تسمية وفضح بعض الجوانب المثيرة للجدل حيال سياسة أنقرة تجاه سوريا.
كما أن القيام بذلك سوف يجعل الحزب يظهر بمظهر المتعاطف الكبير مع البي واي دي. وفي حين أن الدعم الكبير الذي يحظى به حزب الشعوب قادم من أكراد تركيا, إلا أنه نجح في خلق صورة بأن دميرتاز يتمتع بجاذبية ودعم كبير من قبل جميع الأعراق. تركيز حزب الشعوب على الأكراد سوف يقوض هذه الرواية, ويعزز اليمين التركي وربما يؤدي إلى عكس نتائج الانتخابات. حزب الشعوب, وكحال الأحزاب التركية المعارضة الأخرى, يعارض بشدة العمل العسكري التركي في سوريا, مما يعني أن حزب العدالة سوف يفشل في حال توجه إلى البرلمان للحصول على إذن بتدخل عسكري على مستوى أوسع في سوريا. ولهذا, فإن الفكرة التي طرحها السياسيون الأكراد أنهم ربما يوافقوا على وجود قوات أمريكية برية في المنطقة العازلة التي يمكن أن يتم إنشاؤها بحماية أمريكية ربما تفشل وفقا للديناميكيات البرلمانية الراهنة.
أضف إلى ذلك الاضطراب الانتخابي القادم في تركيا. خلال الشهرين القادمين على الأقل, فإن الأحزاب السياسية سوف تركز داخليا على المفاوضات الائتلافية. السياسة الخارجية, إذا جاء دورها بالأصل, سوف تستخدم باعتبارها قضية شعبية, تهدف إلى إثارة الخصومات السياسية. وإذا فشلت مفاوضات الائتلاف, فإن البلاد سوف تدخل في دورة انتخابية أخرى, سوف تسمح لحزب العدالة باستعادة نفوذه القوي على مسار السياسة الخارجية التركية.
مما يعني أن حزب العدالة سوف يستمر في لعب دور المهيمن في صياغة سياسة سوريا في على المدى القريب. أبعد من ذلك, لا تزال النخبة السياسية المسئولة عن سياسة حزب العدالة في سوريا في مكانها, وهي مكونة في معظمها من البيروقراطيين غير المتخبين الذين يتصرفون بناء على توجيهات الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو. في حين أن أردوغان ربما يختار استبدال داوود أوغلو, فإنه من غير المحتمل أن يخالف أي مرشح آخر سياسة حزب العدالة والتنمية – خاصة أن الجماعات المدعومة من تركيا تحرز تقدما في إدلب.
وهكذا, وفي حين تفوق حزب الشعوب على حزب العدالة والتنمية بأصوات الناخبين الأكراد, إلا أن نجاحه ربما لا يشكل تأثيرا كبيرا على تغيير مسار سياسة تركيا في سوريا. توحي هذه الديناميكيات بالحفاظ على الوضع الراهن, على الرغم من أن مزيدا من التفاصيل حول تصرفات أنقرة في سوريا تثار في البرلمان. ولهذا فإنه على الأرجح فإن أنقرة سوف تستمر في تسليح فصائل المتمردين في سوريا وتقديم المساعدات عبر الحدود, ولكن من غير المحتمل أن تبقى هذه النشاطات سرية لفترة طويلة. وهذا سوف يجعل الأمور أصعب بالنسبة لحزب العدالة, ولكن قياداته العليا لا زالت ملتزمة بإسقاط بشار الأسد, كوسيلة لإنهاء الصراع السوري وكجهد بعيد المدى لسن العناصر الأساسية لسياسة الحزب الخارجية.
المصدر: دايلي بيست
ترجمة مركز الشرق العربي