مرة جديدة، “ينجح” الروس، في الأسبوع الماضي، بعقد لقاء “سوري” في موسكو بمن حضر، في سعيٍ لا يكلّ ولا يملّ، مرضيّ عنه أميركياً، للعب دورٍ سياسي في مسار المقتلة السورية، إلى جانب الدور العسكري والاقتصادي البارز. وعلى الرغم من فشل اللقاء السوري الأول الذي دعوا إليه في 26 فبراير/شباط الماضي، لضعف السيناريو والممثلين وفشل المخرج، على الرغم من السمعة العطرة للسينما الروسية، في حقبتها السوفييتية على الأقل، إلا أن بعض الشخصيات مما اصطلح على تسميته تبسيطاً معارضة الخارج شاركت في التمثيل خلال الاجتماعات تلك، على الأقل تصويراً، وأدلت بدلوها المثقوب من أكثر من جهة، ليس بسبب النيّات، والله أعلم بالنيّات، ولكن، لأن الرسالة واضحة من عنوانها، فأكثر المراقبين سذاجة لم يكن لينتظر من طرف أساسي في الصراع السوري أن يلعب دور المُصالح والوسيط. وحتى بعيداً عن الانخراط العسكري المباشر، ومن متابعة وتحليل السياسات الروسية منذ البدء، يمكن اعتبار الروس طرفاً يُحاوَر، ولا يمكن بحالٍ أن يُعتمد عليهم وسطاء محايدين. وهي “تهمة” نفوها جهاراً في أكثر من مناسبة. هم، إذاً، طرفٌ يُحاوَر، كما الإيرانيون طرفٌ يُحاوَر، على الرغم من إمساك هؤلاء أوراق اللعبة بشكل أكبر وأكثر فاعلية وتأثيراً على طرف أساسي من أطرافها.
كاتب السيناريو والمخرج اللذان أثبتا فشلهما في اللقاء الأول، استعادا المبادرة، ودعوا إلى لقاءٍ ثانٍ في عاصمة الإمبراطورية الروسية المريضة اقتصادياً وسياسياً، محاولين، هذه المرة، تفادي أخطاء شكلية في الحلقة الأولى من مسلسل الكوميديا السوداء. فقرروا أن دعوة أشخاص بأسمائهم من دون التوجه إلى “كياناتهم” السياسية غير محمود. فعمدوا إلى التواصل مع هذه الكيانات، من هو في الداخل أو في الخارج، مثل تيار بناء الدولة وهيئة التنسيق من جهة، والائتلاف الوطني السوري من جهة أخرى، إضافة، طبعاً، إلى عناصر أمنية بلبوس معارضة “وطنية”. وأخيراً، جاء من دُعي كشخصيات مستقلة، أو ممثلة عن كيانات وهمية. وفي هذه المبادرة، أي دعوة الجميع من دون استثناء، إيجابية شكلية، أراد منها الروس أن يُزيلوا الشكّ حول نيّاتهم.
وعلى الرغم من أن عدداً من قيادات هيئة التنسيق الوطني مختفون، ولا تأثير للروس على أصدقائهم في دمشق لإخلاء سبيلهم، فقد ارتضت قيادة هذا التجمع السياسي المشاركة، من دون الإشارة، ولو بكلمة عتاب، إلى مُغيبيهم وأصدقاء هؤلاء من الروس الذين لا ناقة لهم ولا جمل في التأثير الفعلي على السجّان. أما تيار بناء الدولة، والذي يُحاكم مؤسسه ورئيسه، لؤي حسين، بتهمة “وهن عزيمة الأمة”، فقد مُنع من السفر والمشاركة في اللقاء. وأما الائتلاف الوطني لقوى المعارضة، والموجود في الخارج، فقد رفض المشاركة في التمثيل، في هذا العمل الضعيف إعداداً وإخراجاً وتمثيلاً. وحجته أن الروس ارتأوا قبول الصيغة السورية الرسمية لترتيب اللقاء من حيث، أولاً، إشراك أشخاص من المعارضة الوهمية/الرسمية/الأمنية، ما يُضعف موقف الطرف المعارض الذي يتوجب عليه، نظرياً على الأقل، أن يتوافق على مطالبات موحدة، أو منسّقة، توجّه إلى وفد النظام السوري. وثانياً، يبدو التهاون الرسمي السوري بهذا اللقاء على أشدّه، عندما يتم تمثيله بدبلوماسي اشتهر بمواقفه الحادة، وبتهديداته الصريحة لمن شارك في جنيف 2. وعندما تعتمد أية جهة على موظف في وزارة الخارجية في “محاورة” معارضيها، فهي رسالة
واضحة إلى تبعية هؤلاء إلى جهات خارجية، أو إلى أن النظام لا يرغب بمحاورة مواطنيه، بل هو يحاور عبرهم دولاً بعينها.
تم الاجتماع، وخرجت صور ضمّت، جنباً إلى جنب، ممثلي المعارضة الأمنية، أو تلك المُقتنصة لأي ظهور، مع بعض المعارضين الحقيقيين أو الساعين، ومنهم من لم يجد مكاناً له حتى على الطاولة الخشبية ليسمع كلمة الوزير الروسي الخشبية حول النيات الخشبية في إنهاء المقتلة السورية. ودارت الحوارات بتغطية إعلامية روسية متميّزة، إضافة إلى تسريبات عبر الإعلام الرسمي السوري لتصريحات من يقولون إنهم يمثلون المجتمع المدني “الحيادي”، والذين يُجيدون تسويق عملهم، يعتذرون فيها من ممثل النظام على تشتت المعارضة (…).
“يظن الأميركيون أن تلزيمهم الملف السوري له أن يدفعهم إلى لعب دورٍ مسؤولٍ، ولو في حدوده الدنيا. ولكن، ما هي النتيجة؟”
لا ضرر في عقد الندوات، واجتماع ممثلين حقيقيين عن المعارضة المرضي عنها، أو المسكوت عليها، مع ممثلين لتيارات تتنقّل حيث شاء الهوى، مع عناصر أمنية بلبوس سياسية، مع أشخاص يحملون النيّات الطيبة، ويسعون إلى وقف المقتلة القائمة بكل ثمن. وليس من المنبوذ، في المطلق، أن يرعى الروس، أصحاب المسؤولية المباشرة في الموت، مثل هذا اللقاء، سعياً إلى تحويل مساهمتهم العسكرية إلى سياسية، بعد أن فهموا تعقيدات المشهد ومآلاته المتفاقمة. ليسوا حياديين. ولكن، يظن الأميركيون أن تلزيمهم الملف السوري له أن يدفعهم إلى لعب دورٍ مسؤولٍ، ولو في حدوده الدنيا. ولكن، ما هي النتيجة؟
لقد تلا الروس النقاط التسع التي تم “الاتفاق” عليها. وفي ما عدا النقطة الأولى حول “تسوية الأزمة السورية بالوسائل السياسية على أساس توافقي، بناء على مبادئ جنيف 1″، فما يليها، مع بعض الصياغات الغامضة، لا يعدو كونه بياناً رسمياً سورياً مُصاغاً بالتركيبات والمفردات نفسها التي تعوّد عليها متابعو إذاعة دمشق.
وعلى الرغم من تعبير بعض المشاركين “المعارضين” عن امتعاضهم فيسبوكياً من أداء الوفد “الحكومي”، ومن انخفاض مستوى تهذيب ممثل النظام، ومن نتائج اللقاء عموماً، فمن المنصف القول إن الروس والرسميين السوريين كانوا منسجمين مع أنفسهم، ومع “مبادئهم” وأهدافهم. في حين أن من ارتضى أن يلعب دور “الكومبارس” في هذا الفيلم السيئ هو المُلام إن أُحْسِنَ التعبير.
سلام الكواكبي – العربي الجديد