أقرّ القضاء الفرنسي ما كان قد أوصى به ممثلو الادعاء العام في قضية رفعت الأسد، الذي واجه اتهامات غسل الأموال المنظم، والاحتيال الضريبي، والكسب غير المشروع، واختلاس أموال الدولة السورية، وبناء إمبراطورية عقارية في فرنسا قيمتها نحو 90 مليون يورو؛ فحكم عليه بالسجن أربع سنوات، وسداد غرامة بقيمة 10 ملايين يورو. كذلك قضى الحكم بمصادرة جميع أصوله العقارية في فرنسا، ومصادرة واحد من أملاكه العقارية في لندن تبلغ قيمته 29 مليون يورو. هيئة دفاع رفعت كانت طابوراً مؤلفاً من خمسة محامين، اعتمدوا مع ذلك ستراتيجية دفاعية شبه وحيدة، مفادها أنّ الأموال جاءت من السعودية، وأنّ موكلهم سوف يطعن في الحكم.
هذه، من حيث المبدأ، حدود القضاء الفرنسي قياساً على التهم التي واجهها الأسد العمّ؛ ولخائبي الرجاء (السوريين تحديداً) ممّن انتظروا حكماً أقسى أن يتمسكوا بالمستوى الأدنى من الواقعية في تفهّم الحكم. ولعلّ العقلاء بينهم لن يستبعدوا احتمالات أسوأ في قادم الأيام، إذْ أنّ القضاء الفرنسي ذاته قد يعدّل الحكم أمام محكمة الاستئناف؛ وقد ينظر، بالمعنى القانوني الصرف، إلى حقيقة أنّ غالبية أموال رفعت لم تصل إلى أوروبا عبر تحويلات مباشرة من سوريا، ولا دليل على أنها تدفقت عبر سيولات حُملت في حقائب، أو جرى غسلها أو تبييضها أو تناقلها عبر وسطاء وزبانية ومافيات…
وهذه، للتشديد مجدداً على ما هو معروف، شكوى أقامتها في سنة 2014 منظمتا «شيربا» و«الشفافية الدولية» المعنيتان بمكافحة الفساد على نطاق عالمي، ولم تكن طرفاً فيها أية منظمة حقوقية سورية في حدود ما ذُكر حتى الساعة. كما أنّ الشكوى لم تتصل بجرائم الحرب التي تُنسب إلى رفعت، في سجن تدمر ومدينة حماة وسواهما، بصفته قائد «سرايا الدفاع» التي كانت جيش النظام الأشرس والأعلى تسليحاً وامتيازات، والأشدّ وحشية وتسلطاً وإجراماً بحقّ السوريين. وإذا كان حكم القضاء الفرنسي الأخير خطوة في الطريق الصحيح نحو نزع الحصانة عن رجال النظام الأبرز من مجرمي الحرب السابقين واللاحقين، فإنها بمعنى انتهاك حقوق الإنسان وجرائم الحرب لا تقدّم كثيراً؛ بل لعلها تؤخّر، حين تحصر فظائع رفعت في قضايا مالية صرفة.
سوى هذا وذاك، لا تقتصر حكاية الأسد العمّ مع فرنسا على إقامته في ربوعها، واستثماراته وأملاكه وعقاراته واسطبلاته؛ ولا تنتهي، غنيّ عن القول، بمثوله أمام القضاء الفرنسي بعد 36 سنة من مغادرة سوريا والعيش تحت كنف القوانين والأنظمة الأوروبية، بين سويسرا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا ولوكسمبورغ. الملفات الأشنع في هذه المسيرة كانت علاقة رفعت مع الأجهزة الأمنية في فرنسا بصفة خاصة، والتي دشنت التنسيق معه منذ الأيام الأولى التي أعقبت وصوله إلى سويسرا، حين زاره في جنيف فرنسوا دوغروسوفر «رجل الظلّ» والمهمات الخاصة في قصر الإليزيه، موفداً خاصاً من الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتيران، حاملاً دعوة للانتقال إلى فرنسا والإقامة فيها. المحطة التالية كانت تقليده وسام الشرف برتبة فارس (بسبب «تقديم خدمات إلى الأمّة»!)، على نقيض مذهل من يقين الاستخبارات الفرنسية بأنه كان على صلة بصناعة قرار اغتيال السفير الفرنسي في بيروت، لوي دولامار، خريف 1981.
أمر آخر مختلف تماماً أن يفلح أيّ قضاء في إصلاح ما أفسد دهر الساسة الفرنسيين، وقادة أجهزتهم الأمنية وتجّارهم، من تعامل مع «جزار تدمر»، كان أقرب إلى تواطؤ صريح وفاضح ومنظّم
وفي مناسبة انطلاق جلسات محاكمة الأسد العمّ، أواخر العام 2019، كان موقع «ميديابارت» الفرنسي الإخباري المستقلّ قد نشر مادّة مفصلة، بتوقيع الصحافي الفرنسي المختص بالشؤون السورية جان ـ بيير باران، بدت بمثابة كشف حساب مفصّل، ومعمّق، لعلاقات رفعت مع الأجهزة الأمنية والسياسية الرسمية الفرنسية. نعرف أنّ رفعت، بعد مجيئه إلى فرنسا واستقراره في ملك بمساحة بمساحة 4,000 متر مربع في جادة فوش الباريسية الشهيرة، مستقرّ كبار الأثرياء والمافيات؛ أخذ يحظى بحماية لصيقة من المخابرات الفرنسية، الـDST، وكانت مرافقته الشخصية امرأة ضابط من هذا الجهاز.
الاستخبارات الفرنسية كانت مقتنعة بأنّ رفعت يستطيع التدخل في وقف إرهاب أبو نضال، «بعبع» فرنسا الأمني في تلك الحقبة؛ إما بتحييده، أو بإبعاد عملياته عن الأراضي الفرنسية. مستشارو قصر الإليزيه، من جانبهم، كانوا يرون أنّ رفعت حمّال موقع رئاسي في سوريا، وأنه ليس أحد كبار أقوياء النظام فقط، بل هو منافس جدّي على وراثة أخيه حافظ الأسد. ورغم تبدّل رعاة أبو نضال، وانتقاله من النظام السوري إلى النظام الليبي ثمّ النظام العراقي، واظبت الأجهزة الفرنسية على التعاطي مع رفعت في مستويات شتى؛ كما أعطت بذلك، عامدة أم على نحو تلقائي، ما يشبه الضوء الأخضر لمسؤولين مدنيين وممثلي أحزاب ورؤساء بلديات في إقامة علاقات وطيدة مع رفعت.
لا أحد من هؤلاء كان يجهل هوية الأسد العمّ الإجرامية، وأنه على وجه الدقة «جزّار تدمر» في أقلّ أوصافه وضوحاً عند السوريين، ولكن أيضاً في أوساط فرنسا السياسية والاقتصادية والتجارية والإعلامية. ولقد توفرت وقائع كثيرة أثبتت أنّ التواطؤ مع رفعت بلغ أحياناً مستوى «لفلفة» قضايا جنائية أمام القضاء، مثل واقعة دهس مواطن فرنسي بسيارة «فيراري» كان يقودها أحد أبناء رفعت في باريس؛ وأنّ علاقة القرابة بين الأسد العمّ وولي العهد السعودي عبد الله بن عبد العزيز، الذي سيصبح ملكاً بعد وفاة أخيه غير الشقيق فهد، كانت بمثابة رخصة إضافية تبرر التعاون مع رفعت، كما تفضي إلى غضّ النظر عن مخالفاته الكثيرة، هذه التي سوف يمثل أمام القضاء متهماً بها أواخر العام 2019.
هنا، على سبيل المثال، مقطع من رسالة إلى رفعت سطّرها، صيف 1988، جان ـ كلود سومبيراك، رئيس جمعية SOFRESA المعنية بتصدير الأسلحة الفرنسية إلى المملكة العربية السعودية، وكشف النقاب عنها الصحافي الفرنسي بونوا كولومبا: «تعلمون سيادتكم أنه تمّ قبل بضعة أسابيع توقيع عقد الحوّامات مع السعودية، الذي حدثتكم عنه في لقائنا الأخير. أودّ أن اشكركم على ما قدمتموه من مساعدة لفرنسا خلال استكمال هذه العملية، التي ستوطد أواصر علاقاتنا مع الأمّة العربية». وأمّا جان ـ كريستوف بوليه، عمدة ضاحية بيسانكور حيث يقع قصر رفعت الذي كان ملكية سابقة للعائلة المالكة السعودية، فيستذكر أنه في أعقاب انتخابه مباشرة، سنة 2001، زاره اثنان من ضباط الاستخبارات العامة الفرنسية، ومعهما رسالة مفادها أنّ رفعت «شريك، ولا يتوجب اتخاذ أيّ إجراء ضدّه».
وعلى خلفية الأصول السعودية لأموال رفعت، كانت هيئة دفاع الأسد العمّ قد قدّمت إلى المحكمة صورة شيك من السعودية بقيمة 10 ملايين دولار أمريكي، يعود إلى سنة 1984؛ وثلاثة تحويلات مالية من المملكة أيضاً، في سنة 2000، قيمتها 40 مليون دولار؛ ولا يخفى أنّ المحققين لم يقتنعوا، البتة، بأنّ ثروة رفعت المقدّرة (عقارات مختلفة ومزرعة خيول وقصر و7300 متر مربع من مساحات المكاتب، في فرنسا؛ ونحو 507 عقارات، تقدر قيمتها بنحو 695 مليون يورو، في إسبانيا؛ فضلاً عن عقار لندن في حيّ «ماي فير» الفاخر…) نتجت عن استثمار الملايين السعودية وحدها.
وهكذا فإنّ القضاء الفرنسي قد أنجز خطوة أولى، متواضعة وخجولة ربما، على صعيد روحية الشكوى التي تقدمت بها منظمتا «شيربا» و«الشفافية الدولية»، بصدد الفساد وغسل الأموال والتهرب الضريبي؛ وهذه، كما أسلفنا، هي حدود القانون الفرنسي في ملفات مماثلة. أمر آخر مختلف تماماً، في المقابل، أن يفلح أيّ قضاء في إصلاح ما أفسد دهر الساسة الفرنسيين، وقادة أجهزتهم الأمنية، وتجّارهم، من تعامل مع «جزار تدمر»، كان أقرب إلى تواطؤ صريح وفاضح ومنظّم.
نقلا عن القدس العربي _ صبحي حديدي