في ريف دمشق الذي يخضع لحصار خانق، بات سد الرمق يشغل اهتمام الناس، حيث تتردد في كل الجنبات حكايات العوز والخبز والبؤس، بينما يتضور الكبار جوعا حتى يطعموا الصغار بما يتوفر من طعام.
هل سبق لك أن تناولت رغيف خبز محضَّر من بعض “السباغيتي” المعجون مع القليل من الذرة والشعير والأرز؟
في الدول المتقدمة تحرصُ السيدات على تناول نوع مشابه لهذا الخبز لتخسيس الوزن الزائد، لكن في سوريا تجتهد النساء المحاصرات في ابتكار هذه “العجنة”، التي قد لا يدخل دقيق القمح في مكوناتها أحياناً، في سبيل خداع أطفال جوعى، وطالما اشتاقوا للرغيف الذي كانوا يعتادونه على موائدهم.
تجلسُ أم خالد قرب الموقد للإشراف على “عجنة” خبز كنّاتها اللاتي يتناوبن على دعكها، بينما ترفض العجينة أن تلين بين أيدي السيدات المحاصرات لعدم وجود الخميرة.
في الصف الخلفي للمتحلقين حول طهو الخبز، يتسمّر محمود ابن السنوات الثلاث متأملاً الرغيف المفترض وهو ينضج على صاج المدفأة. محمود هو أصغر أفراد الأسرة الكبيرة سينال الرغيف الأول الساخن، ولطالما بكى طوال النهار من أجل هذا الرغيف.
ترفض أم خالد الجدة أن تمتد أيدي الكبار إلى الخبز الساخن قائلة “اصبروا حتى يأكل الأولاد أولاً.. نحن نحتمل أما هم فصغار”.
لا يخلو الخبز المحضر لتوه من بعض القساوة، لكن محمود -الذي اعتاده- يطلب رغيفاً آخر لسد رمقه. في البيت الكبير أطفال آخرون ينتظرون نصيبهم من خبز اليوم، وقد تمر أيام طويلة قبل أن تؤمن الأسرة حبوباً إضافية لعجنةٍ جديدة.
تقول أم خالد للجزيرة نت “رغم معاناتنا الصعبة، يبقى سعينا لتأمين لقمة عيش أطفالنا الهدف الأهم الذي نسعى إليه طوال اليوم”.
وتضيف “تقتصرُ وجبتنا نحن الكبار على حساء فيه بعض الحبوب والتوابل، ونعتمد على الخضراوات التي باتت تُزرع على الشرفات وبين المنازل”.
نقص الكالسيوم
في حالاتٍ كثيرة، يبللُ الأهل الخبز اليابس بالماء لتطريتهِ، ويقدّمُ للأطفال في وجبات الصباح التي تقتصر في أحيانٍ كثيرة على الزيتون أو الزعتر المخزّن من مواسم ماضية.
يمكنك أن ترى علامات نقص الكالسيوم واضحةً على أظافر وأسنان الأطفال الصغار. الصغار ما دون الثالثة ولدوا أساساً في ظروف الحرب وعاشوا منذ ولادتهم في حصارٍ لا يعلمُ أحد متى وكيف سينتهي.
كيس الشعير المستورد الذي خصصته أسرة أم خالد لتحضير الطحين هو في الحقيقة علف أبقار تبتاعه أسر المزارعين في فصل الشتاء، ونالت الفئران من بعضه، لكنه لا يزال صالحاً بعد فرز الحبات المعطوبة.
وأصبحت الذرة الصفراء أحد أهم الحبوب التي تدخل في صناعة رغيف الخبز بعد أن تعسرت زراعة القمح على المساحات الشاسعة المهددة بقصف الطائرات والقناصين.
حصار خانق
ويحرصُ المحاصرون على زراعة الذرة لفائدة مزدوجة، فساقها وأوراقها ذات فائدة للأغنام والأبقار التي تؤمن حليباً شحيحاً، لكن لا بديل عنه في أجواء الحصار الخانق.
يقول خالد -الابن الأكبر للأسرة- إنه أنفق خمسين ألف ليرة (حوالي 265 دولارا) لشراء عشرة كيلوغرامات من الطحين الأبيض، لكنها صودرت واعتقل السائق بعد كشف عملية تهريبها على أحد الحواجز، بحجة أنها تنقل لإطعام الإرهابيين.
ويضيف خالد “اعتمادنا على الزراعة في مثل هذه الظروف قد يكون الحل الأفضل، ويعوض الكثير من النقص في الاحتياجات الغذائية للسكان”، لكنه يشير إلى مخاطر الزراعة تحت القصف والبراميل المتفجرة التي تلقيها الطائرات.
أسرة أم خالد عائلة ميسورة قياساً بالدخل المالي للعديد من مئات العائلات في الضواحي الجنوبية لدمشق وغوطتيها.
ويقول والد الأسرة إن ألف دولار لا تكفي لسد احتياجات أي أسرة محاصرة يزيد عدد أفرادها على ستة، فسعر الكيلو الواحد من السكر يساوي ثلاثين دولاراً، بينما تستهلك العائلة خمسة كيلوغرامات في الشهر الواحد.
المصدر : الجزيرة