أعلن عمدة لندن هذا الأسبوع أنه لم يستطع “إخفاء دهشته حينما وصلت الأنباء من تدمر” حيث “ذكرت أن الجيش السوري عاد بالفعل ليسيطر على موقع اليونيسكو بالكامل”.
وأعرب بوريس جونسون متفاخراً عن سعادته في مجلس العموم بـ”التحرير” المزعوم للمدينة القديمة (وهو في الأساس ما نجحت به القوات الخاصة والطائرات الروسية ومليشيات حزب الله التي تدعم الرئيس السوري منذ أوائل الثورة عام 2011).
وقد تمادى في ذلك من خلال طرح فكرة إرسال معماريين وعلماء آثار بريطانيين إلى المدينة القديمة لاستعادة آثارها المطموسة والمخربة، بحسب تقرير لصحيفة “International Business Times” البريطانية.
ويعد مثل هذا الاقتراح المتمثل في استعادة “أمجاد” سوريا ثانية (مع بقاء بشار الأسد في السلطة على ما يبدو) منافياً للمنطق؛ ولا يرجع السبب في ذلك إلى دعم النظام السوري للجهاديين من خلال إطلاق سراحهم من سجن صيدنايا عام 2011.
ويعد المقترح مثيراً للاستغراب، ليس فقط لأن الأسد ومن خلال وكيله جورج أسواني كان واحداً من العملاء الرئيسيين لتنظيم الدولة الإسلامية فيما يتعلق بشراء النفط المباع بصورة غير قانونية، بل لأنه المذنب الرئيسي في مقتل 350 ألف من مواطنيه خلال الثورة والحرب الأهلية التي دامت على مدار خمس سنوات.
وأخيراً، فإن فكرة جونسون غير ناضجة؛ لأن الحكومة السورية قد قصفت بطائراتها ومادة الـTNT المدن والمواقع القديمة التي خرجت عن نطاق سيطرة الأسد ودمرت حياة أعدادٍ لا حصر لها من المدنيين ومقتنيات الماضي التي لم يسمع عنها العمدة من قبل. وتندرج بعض هذه المواقع ضمن قائمة التراث العالمي، وهو ما تحرص منظمة اليونيسكو ذاتها ومديرها العام إيرينا بوكوفا على نسيانه.
فهل يتعين على أوروبا والمملكة المتحدة أن تساهم في إعادة إحياء النظام السوري من خلال نشر دعايته التي تصوره كما لو كان حامي الحضارة والتراث – التراث الذي دمره عن عمد؟
وقد يكون مفيداً النظرُ إلى تدمر ما قبل احتلال تنظيم الدولة لها. فقد هددت النسخة المحلية لرأسمالية المافيا ذلك الموقع قبل عام 2011، حينما قرر ابن عمه رامي مخلوف الاستفادة من بناء فنادق خمس نجوم على أطلال المدينة الهلينستية التي لم يتم الكشف عن آثارها، والتي استكشفتها بعثة أثرية بقيادة شميت كولونيت وجاليكوفسكي.
ولشجب هذا التعدي على الأطلال القديمة لصالح تحقيق الأرباح السريعة، اضطر محمد طه، عالم الآثار السوري الذي يعمل بمصلحة تدمر للآثار، إلى الفرار إلى أوروبا عام 2006 أو مواجهة السجن والاعتقال. وقام الجيش السوري بإرسال الدبابات إلى الموقع عام 2012 و2013؛ وهو الأمر الذي يمكن التأكد من صحته ببساطة من خلال صور موقع Google Earth.
تواطؤ قوات الجيش
ودمر الجيش السوري صفاً كاملاً من أعمدة معبد بل الذي يرجع إلى القرن الأول الميلادي بنيران صواريخه. وتواطأ ضباط الجيش التابعون للنظام في نهب وحفر الموقع بصورة غير قانونية، وفقاً لما توضحه مقاطع الفيديو التي صورها مواطنو تدمر أنفسهم. ويعد المعبد هو أحد المعالم الرئيسية في تدمر وموقعاً لأحد المهرجانات القديمة المكرسة لإله الخصوبة ببلاد ما بين النهرين وللإلهين أجليبول ويارهيبول اللذين ساهما في ازدهار هذه الواحة.
بالميرا – أو تدمر باللغة العربية – هي اسم يرتبط أيضاً بأسوأ انتهاكات عائلة الأسد لحقوق الإنسان؛ وهو الأمر الذي أعتقد أن جونسون وغيره من السياسيين الغربيين يسعدون بنسيانه. فهو مكان يتم إخفاء الناس به وتعذيبهم وإعدامهم منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي. وهو موقع أسوأ السجون في البلاد، حيث يهبط ضباط الشرطة السرية للأسد بطائرات الهليكوبتر ويطلقون نيران المدافع الرشاشة على المساجين السياسيين داخل زنازينهم.
ومن المحتمل أن يرغب النظام السوري في دفن هذه الذكريات في تدمر من خلال بناء فنادق، مثلما فعل في حماه في أعقاب مذبحة فبراير/شباط 1982، حين تمت تسوية ثلث المدينة بالأرض وبناء فندق قصر الشام على جثامين 20 إلى 30 ألفاً من أبناء المدينة.
ولو أن هناك شيئاً يثبت أن تنظيم الدولة ليس سبباً وراء سقوط الأسد، ولكنه شريك له، فإن ذلك الشيء يتمثل في تدمير هذا السجن على يد تنظيم الدولة حينما سيطر على المدينة. وبذلك، فقد دمر الدليل الوحيد على عمليات التعذيب التي كان يمارسها الرئيس السوري، وهي عمليات تم توثيقها برواية مصطفى خليفة في رواية بعنوان “القوقعة”.
ومع ذلك، فلننظر فيما وراء تدمر إلى الأقاليم الخاضعة للنظام أو المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوري الحر أو جيش الفتح أو الجماعات الأخرى بخلاف تنظيم الدولة الإسلامية في غرب وجنوب البلاد. وربما يستطيع جونسون أن يتذكر إحراق أكبر سوق في العصور الوسطى (الأيوبي والمملوكي والعثماني) باستخدام القنابل الحارقة بفضل جيش الأسد عام 2013؟
هل يمكننا أن ننعش ذاكرته بأن نذكر عملية تدمير مأذنة المسجد الكبير في حلب بنيران الدبابات؟ وربما يستطيع الرجل النبيل أيضاً أن يذكر قيام مدفعية الجيش السوري بهدم قلعة المضيق في مارس/آذار 2012، وهي قلعة قائمة منذ الحروب الصليبية تطل على مدينة أفاميا الرومانية والبيزنطية في سوريا.
20 ألف لص
ومن الرائع أن يتم إطلاع الشعب البريطاني على الـ20 ألف لص الذين نهبوا هذه المدينة الرومانية، التي كان يقطنها 100 ألف مواطن خلال القرن الأول الميلادي، وأن تتمكن مصلحة الآثار السورية برئاسة دكتور مأمون عبد الكريم من التعبير عن حجم نضاله في مواجهة الجيش السوري أثناء عمليات النهب في هذا الموقع الرائع الذي يضم أطول أعمدة معابد في العالم القديم.
وقد تم اكتشاف مكان يحتوي على أفضل أنواع الفسيفساء في الشرق، والتي يتم عرض بعضها حالياً في أحد المتاحف الخالية أسفل الموقع، حيث لا تخضع لأي أنواع الحراسة والحماية.
وذلك بالإضافة إلى القصف الجوي الذي وجهته المقاتلات الروسية لمدينة شمشارا البيزنطية بالقرب من معرة النعمان في أوائل أكتوبر/ تشرين الأول 2015، وهو العمل الذي كشفته جمعية العلوم السياسية الأميركية أثناء توثيق عمليات التدمير وسعت مصلحة الآثار في دمشق بكل طاقاتها إلى إخفائه.
أم ينبغي أن نتحول إلى درعا الواقعة جنوبي سوريا ومهد الثورة حيث تحول أحد أقدم المساجد إلى أنقاض جراء قصف الدبابات السورية؟ هل ينبغي أن نذكر عمليات القصف في أنحاء العاصمة القديمة بصرى؟ وقد كانت المدينة موطناً أخيراً للمملكة النبطية العربية بعد بترا الأردنية وموطن الجيش الروماني في أعقاب عام 106 ميلادية، حينما قام كورنيليوس بالما نيابة عن الإمبراطور تراجان بضم المنطقة وجعلها إقليماً عربياً.
وماذا عن تدابير المحافظة بالموقع للحفاظ على أفضل مسرح روماني في العالم القديم؟ أم على قصر تراجان والكاتدرائية، حيث يُذكر أن الناسك باهيرا قد حدق في خاتم الأنبياء النبي محمد؟ وربما تستطيع مديرية الآثار السورية ودكتور عبد الكريم ذكر المزيد من التفاصيل حول التدابير التي تم اتخاذها لمنع النهب والتدمير في موقع آخر من مواقع التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونيسكو؟
وربما يكون من المفيد أيضاً أن نتحدث عن قلعة الفرسان، وهي أفضل القلاع الصليبية والمملوكية في الشرق الأدنى، والتي تم إعادة بنائها في أواخر القرن الثاني عشر على يد فرسان الهوسبتاليين من أجل السيطرة على بوقيا، وهي منطقة السهول الواقعة بين حمص وساحل البحر المتوسط. ولم يصدر أي بيان احتجاج رسمي عن مصلحة الآثار حينما قصفته القوات الجوية السورية بطائراتها ودمرت قاعة الاجتماع والعديد من أجزاء حصنها.
ولا داعي لأن نذكر أن تنظيم الدولة لم يكن في منطقة وادي نصارى، حيث كان يعيش العلويون والسنيون والمسيحيون (كما يشير الاسم) في سلام نسبي على مدار قرون. وكنت لأتوقع أن يتقلب لورانس العرب، الذي حصل على الدكتوراه من جامعة أكسفورد في قلاع الحملات الصليبية وقام بزيارتها على الأقدام في الأيام التي سبقت الحرب العالمية الأولى، في قبره جراء حجم الدمار الشامل الذي مُنيت به المنطقة.
الأسد دمر سوريا
ولو أن الخبراء سافروا إلى سوريا يوماً ما لتقييم حجم الخسائر التي لحقت بالموقع وإذا ما تم تنفيذ عمليات الترميم والإحياء في المستقبل، فلن يكون السماح للأسد بنشر روايته القبيحة التي تزعم أنه منقذ تدمر – وسوريا و”الحضارة” – بمثابة عذر مقبول.
وإذا كان من المقرر أن تتولى هيئة اليونيسكو والهيئات الأخرى أعمال إعادة بناء معابد بل وبعل شامين والقوس المشيد عند مدخل أعمدة كاردو أو مقبرة الأبراج الثلاثة – والتي تم تفجيرها كلها على يد تنظيم الدولة – فلابد أن تكون تلك الهيئات صريحة بشأن ما تم تدميره أو إتلافه خلال حرب الأسد ضد شعبه التي دخلت عامها السادس.
يتعارض تصوير التماثيل المشوهة والآثار المدمرة في متحف تدمر مع البيانات الصادرة عن مصلحة الآثار السورية، والمتمثلة في نقل كافة الآثار من هذ المتحف وإخلائه قبيل انسحاب الأسد المتعمد والمخزي- من المدينة القديمة.
فقد تم خداع العديدين في الغرب بآلة الدعاية الموالية للأسد، حينما زعمت أنه يحارب جهاديي تنظيم الدولة الوافدين من إقليم الأنبار بالعراق. (وبالمناسبة، يتساءل المرء حول كيفية نجاح طابور من سيارات الدفع الرباعي التابعة لتنظيم الدولة في اجتياز 350 كم في الصحراء بين الفالوجة والرمادي دون التعرض لأي قصف جوي).
ربما حان الوقت كي لا ننخدع مرتين ونسمح للأسد بالتخلص من هذا المأزق مرة أخرى. ومع ذلك، ننقل عن بوريس جونسون قوله “إنه أبشع الأنظمة الحاكمة على وجه الأرض”. فكيف يسدي العمدة صنيعاً للأسد بما يبرر له تنفيذ المزيد من عمليات الدمار والبؤس والقتل في هذه المناطق القديمة التي انتفض أبناؤها بشجاعة في مارس/آذار 2011 من أجل تحقيق الحرية والكرامة؟