قبل الفجر بساعات توقفت الشاحنة المحملة بالبضائع …. السائق بصوت خافت :” هيا اصعدوا ليس لدينا الوقت الكافي كي ترتاحوا فالطريق طويلٌ أمامنا “.
صعد الجميع إلى الشاحنة ، الجميع منهكون بعد مسيرٍ ل5 ساعات متواصلة، رمى السائق غطاء الشاحنة علينا كي لا ترانا الشرطة وانطلقنا ,
لم نكن نشعر بحرارة المكان فالوقت كان ليلاً.
ما إن طلع الفجر حتى بدأ الجو في الشاحنة يتغير، هنا توقفت السيارة ولا نعلم ماذا يجري في الخارج .
طفلٌ صغيرٌ لا يتجاوز ال3 سنوات، ينام على ساعد أمه لدقائق ثم يستيقظ ثم ينام ثم يستيقظ، وبقي على هذا النحو نصف ساعة ، تصرخ الأم : “يا إلهي ما به ولدي “. والحرارة في ازدياد، الجميع يصرخ :” افتحوا لنا الباب نريد ان نتنفس “.
مع العزيمة والإصرار لا شيء مستحيل
بلشون… في تلك القرية الخضراء المفعمة بالحيوية بتلالها، بأشجار الكرز والزيتون والطبيعة الخلابة، الجميلة بهوائها العليل وشعبها الطيب تربى جود القاسم
شاب في العقد الثالث من العمر يطمح كباقي أقرانه من الشباب أن يدرس ويتخرج ويعمل بمجال ما ،
ودائماً يتتغنى بالعيون الخضراء وبحبه لها لارتباطها بقصة حبٍ مر بها.
كبُر جود ودخل كلية الحقوق في إدلب سنة 2014 . لكنه ما لبث أن توقف عن الدراسة فوسائل المواصلات أصبحت قليلة من قريته في الريف الجنوبي إلى الجامعة، ناهيك عن أوضاع الحرب .
مع الأيام بدأت فكرة الإعلام تتنامى عند جود ، وبدأ بتطوير نفسه بدورات مكثفة وأصبحت مهنة الإعلام شغفه وشغله الشاغل، التحق بالعديد من الوكالات منها من عمل معها بأجورٍ رمزية، ومنها بشكلٍ تطوعيّ حتى الآن ولو بشكل غير مباشر .
كغيره من الشباب خرج إلى تركيا بطريقة غير شرعية، وبدأت رحلة البحث عن فرصة عمل في المجال الإعلامي الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياة جود .
وجد جود أن عليه إتقان اللغة التركية التي كانت عائقاً كبيراً في إيجاده فرصة عمل ، أتقن اللغة التركية جيداً استطاع إيجاد أكثر من فرصة عملٍ، فعمل في مطعم ومع فريق انساني بآنٍ واحد، فكان يقسم وقته بين العملين المطعم والفريق .
اضطر بعدها لترك العمل بالمطعم والبحث عن عمل بعيداً عن الإعلام، لقلة الفرص فيه.
عمل جود كمترجم لغة تركية عربية، في أحد مشافي إسطنبول، وكان يتنقل بين سوريا وتركيا، خلال إجازات الأعياد فكانت آخر زيارة له خلال الحملة العسكرية على ريف حماة الشمالي .
ما عاناه جود من غلاء في المعيشة وعدم تناسب الدخل مع المصروف ولنقلْ لصدمةٍ عاطفيةٍ، دفعه للتفكير بمغادرة تركيا الى أوروبا ا وتحديداً إلى ألمانيا.
استشار أصدقاءه بالفكرة ولاقت قبولاً منهم، لكنه فوجئ بتكلفة الرحلة، لتبدأ حكاية الصراع النفسي والمادي، فجود لا يملك من قيمة الرحلة التي تبلغ 10 آلاف يورو، سوى القليل .
جمع جود مبلغاً جزئياً من الأصدقاء وعائلته، واستطاع جمع بقية المبلغ خلال ستة أشهر.
نقطةُ الصفر..
نسّق جود مع أحد المهربين وبعد ثلاثة أيام سينطلق في رحلته المصيرية .
وفعلاً بدأ المسير من ولاية أدرنه التركية وفي أحد محطات الرحلة يتوقف القارب المطاطي ويرتطم بجذع شجرة كبيرة ، بدأ جميع المسافرين على متن القارب بالدعاء ألا يتم اكتشاف أمرهم من قبل حرس الحدود اليوناني، فكّر جود بالقفز من القارب والسباحة لقطع النهر، لكنه تراجع عن الفكرة وتم تحريك الجذع من قبل أحد الشبان الموجودين ليتابع القارب مسيره .
يقول جود :” في هذه الأثناء بدأ جميع الركاب من نساء وأطفال_ وكانوا 11 شخصاً _ بالدعاء والتشهد لأنه إذا كُشف أمرنا من قبل الشرطة اليونانية فستكون العاقبة وخيمة جدا…… ولكن الحمد لله تم العبور بأمان “.
وصلت قافلة المسافرين إلى بيت في منطقة ( سانوليك) اليونانية وباتوا ليلتهم في بيت لا يصلح للسكن لا شيء فيه سوى الكهرباء والماء فقط …
وهنا بدأ تقاسم الغنيمة من قبل المهربين .. فُرِضَ على الجميع مبلغ 50 يورو لقاء المبيت ل24 ساعة للشخص الواحد .
كان بحوزة جود هاتف ومعه خط دولي، لم يستطع تحمل الأمر فنسّق مع أحد المهربين للخروج من البيت وإكمال المسير واتفق معه على مكان محدد وساعة محددة لكن المهرّب لم يأتِ.
وخلال انتظار جودللرجل مرت دورية للشرطة اليونانية ، فأختبأ كي لا يروه .
عاد في الصباح إلى البيت، ودفع مبلغ 10 يورو لصاحب البيت لقاء الإقامة.
نسّق مرة أخرى مع أحد المهربين وظن أنه سيعبر إلى الدولة التالية مباشرةً، لكن المهرب أبقاهم في الغابة في منطقة تسمى الكنيسة لمدة 3 أيام مع عدد كبير من الأشخاص منهم نساء وأطفال.
بعدها أكمل المسير إلى ألبانيا مشيا على الأقدام لمدة 8 ساعات ، طرقٌ وعرة جبال شاهقة وأطفال ونساء من ضمن القافلة ، الجميع أُصيب بالإرهاق والتعب ، عند الوصول إلى آخر نقطة للعبور إلى ألبانيا بدأ الأطفال بالبكاء ما أثار انتباه الشرطة.
محطة الكنيسة
ألقي القبض على العديد من أفراد القافلة لكن جود قد هوى بنفسه في الوادي مع بضعة شباب إلا أن الدليل قد تاه وألقي القبض عليهم و أعيدوا إلى الكنيسة.
تعرّف جود على أشخاصٍ جدد في الكنيسة وانطلقوا مجدداً ليقطعوا الأراضي الألبانية وأراضي كوسوفو ليصلوا صربيا .
في صربيا لم يعرفوا إلى أين سيذهبون ولحسن الحظ هناك شخص من القافلة لديه رفاق في صربيا تم التواصل معهم وبات جود في البيت بعقدٍ جديد وهو 10 يورو للشخص الواحد .
في الصباح نسّق أحد الشباب مع مهربٍ وخرجوا باتجاه رومانيا ، لم يلاق جود صعوبة في الطريق إلى رومانيا الأمطار الغزيرة .
لفّ جود أمتعته بكنزة بعد أن تمزقت الحقيبة وبدأ الركض فلا وقت للانتظار .
وصلت القافلة إلى رومانيا وبقيت في الغابة لمدة 5 ساعات.
عاصفة مطرية جديدة لا مكان للاحتماء من المطر ، تأتي شاحنتان محملتان بالبضائع وتتوزع القافة على الشاحنتين ولحسن الحظ كان سائق الشاحنة تركي الجنسية، صعد جود ومن معه الشاحنة وتم إغلاق الشاحنة .
لا يعلم جود ومن معه أين المسير وماهي الوجهة القادمة ولا يمكنهم استخدام هواتفهم لضرورات أمنية، عند الصباح توقفت الشاحنة ولكن لا أحد يعلم أين كان الموقف ولأي منطقة وصلوا .
مع طلوع الشمس بدأت درجة الحرارة بالارتفاع داخل الشاحنة، الجميع كاد أن يغمى عليه ، الأطفال والنساء بدأ العرق يتصبب منهم، منهم من أغمي عليه والنساء تصرخ وتستغيث كي يفتحوا الشاحنة لكن لا مجيب .
تحمس أحد الشباب ومزق الغطاء وخرج الجميع من الشاحنة ، عندها شاهدنا أهل القرية وبدأوا بالتقاط صور لنا حينها تقسمت القافلة إلى مجموعات، كل مجموعة ذهبت في اتجاه وابتعدت مجموعة جود عن موقف الشاحنة مسافة ثلاثة كيلومترات، أعطى جود هاتفه لأحد الشباب ليتواصل مع مهربين.
تم تحديد الموقع وجاء المهرب ومعه سيارة تتسع ل 5 أشخاصٍ فقط وعلى الباقين الانتظار ريثما تأتي السيارة الثانية، انطلقت السيارة بالخمسة ركاب وبقي جود والباقون ينتظرون السيارة الأخرى .
في هذه الأثناء ذهب شخص منهم ليستكشف الطريق ومعه هاتف جود ، جاءت دورية شرطة وألقت القبض عليهم فجأة، وبقي ذلك الشخص على مسافة قريبة يشاهد ما يحدث وبقي هاتف جود معه .
هذه المنطقة التي تمّ فيها إلقاء القبض على المجموعة تتبع لهنغاريا ولا تبعد عن النمسا سوى ساعاتٍ قليلة.
تم اقتياد المجموعة إلى فرع الشرطة الهنغارية وبدأ التحقيق مع أعضاء المجموعة بكل احترام ولم يتعرضوا لأحد منهم بضربٍ أو شتيمةٍ ، لكنهم لم يقبلوا طلب جود إعطاءه حق اللجوء بسبب اتفاقية بين دول أوروبا تمنع ذلك بل يتوجب إعادتهم إلى صربيا .
هنا تحطمت آمال جود بالعبور وما زاد الأمر احباطاً هاتفه الذي فُقِد منه ، كان يطلب من أحد الأشخاص أن يتواصل مع أهله عن طريق هاتفه فيرسل لهم رسالة يطمئنهم عن حالته ولكن ذلك الشخص لم يخبر جود باستلام أهله الرسائل والرد عليها.
عبر GPS سار جود ومن معه إلى مخيم( صون بور ) وهو تجمع للمهاجرين العرب والأجانب في صربيا، وبالصدفة التقى جود بأولاد عمه.
الناس في هذا المخيم ربما أسست حياة جديدة فمنهم من أمضى السنة والسنتين في هذا المخيم، فكلما حاول جود الخروج والمحاولة مجدداً أحبطوا من عزيمته.
حاول جود على مدة 3 أيام العبور من النهر كمحاولة فردية لكنه لم يستطع .
نقطة التحميل وتنفسُ الصعداء
على بعد 8 كم من المخيم نقطة التحميل وهي نقطة العبور من دولة لأخرى، تواصل جود مع المهرب الذي جلب لهم الشاحنة سابقاً.
وأرسل لهم سيارة إلى نقطة التحميل بقي فيها يومين وبعد محاولات عديدة استطاع العبور إلى رومانيا وبقي في رومانيا ثلاثة أيام في منطقة تي مشوارا.
بعدها استقلوا شاحنة محملة بالبضائع لتتكرر المعاناة ذاتها ل 37 شخص بين نساء وأطفال وشباب ، حرارة عالية وضيق تنفس.
تابعت الشاحنة المسير حتى وصلت المانيا٦ خلال 24 ساعة أو أكثر بقليل .
لتتكلل رحلة جود بالنجاح ويتنفس الصعداء، لما عاناه من مشقة الطريق وعناء الرحلة والمخاطر التي واجهته .
كان جود واحداً من الآلاف الذين أُجبروا على الهجرة ، ولكن يبقى السؤال : ماهي الخيارات المطروحة أمامنا ؟
إما أن نواصل الكفاح وأن نتشبث بأرضنا ، وهذا خيار الأغلبية من الناس
او أن نحزم الأمتعة ونسلك طريق جود إلى أوروبا،أملاً بمستقبلٍ آمن… وهذا مالا يقدر عليه البعض ، إما لأسباب مادية أو حبٍ للأرض تربوا عليه منذ الصغر .
يوسف اليوسف