بقلم: آية سرحان
بصعوبة.. وخطوات عاثرة أحاول تجاوز أكوام الحجارة وبقايا الأحلام؛ للوصول إلى أطلال ماتبقى من منزلٍ، لم يعد يحمل ملامحه سوى “القليل” من الصور في هاتفي المحمول و”الكثير منها” في قلبي.
لا أدري لماذا بتلك اللحظات التي نجحت فيها بمهمة الوصول وفشلت في حل لغز كل حجارة لأي ركن من البيت كانت تنتمي، أصابتني حمى الذاكرة، وبدأت الذكريات كشريط فيديو تمر وتتابع من أمام قلبي
لتأخذني لما قبل عام 1999، لصباح يوم كانت أمي تسرح شعري وتدندن “طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان بدي أرجع بنت صغيرة على سطح الجيران”
كانت تلك الأغنية المفضلة لأمي، وكنت دائماً أتسأل تراها كيف كانت أمي وهي “بنت صغيرة” وترى من هم جيرانها الذين حظو بمعرفتها وهي صغيرة، وكيف كان يبدو سطح الجيران،
جميعها أفكار كانت قد مرت بذهني وأنا ألف على أصابعي شريطة شعري ذات اللون البرتقالي الذي لا أحبه، لكن مديرة مدرستنا أجبرتنا عليه، ليتوحد مع لون الفولار والسيدارة المطبوع في وسطها طلائع البعث واسحبها من جديد بانتظار أن تنتهي أمي من ترتيب ضفائري وأغنية “طيري يا طيارة”
أذكر جيداً اضطراب ملامحها وخوفها حين أخبرتها أني لا أريد الذهاب للمدرسة لأني لا أريد المشاركة بالمسيرة لأني أكره المسيرة وأكره حافظ الأسد (رئيس الجمهورية قبل أن يرثه الحكم بشار الأسد)
وقتها شدت بيدها يداي وحذرتني من تكرار هذه الكلمات مرة أخرى، وبدأت تعدد وتسهب بالشرح عن إنجازات حافظ الأسد وتحكي لي أنه علينا أن نحبه لأنه بنى لنا المدارس والبيوت والمعامل ووو، قلت لها وقتها “بس مو هو يلي عمرهن، العمال هني يلي عمرو وهو بقصره”
مابدي روح عالمسيرة بتعب كتير وبيدفشوني طلاب الصف الخامس والسادس
الأن.. وأنا أحاول أن اكتشف أين اختفت شرفة البيت، وأنقل نظراتي بين أكوام الحجارة للعثور على أثر، ولو على هيئة مقبض باب، للتمكن من معرفة أين صار المطبخ، عرفت لماذا خافت علي أمي وحذرتني كثيراً حين قلت أني لا أحب حافظ الأسد.
وفي مشهد مقابل تضعني الذاكرة على مقاعد المدرسة الثانوية، تعيدني لعام 2007 حين كنت طالبة في الصف العاشر، واقتحمت علينا الموجهة الصف لتقاطع أستاذ الرياضيات أثناء حله لمسألة هندسة
بدأت حديثها الذي لايخرج قط عن صيغة الأمر، قطعي الصوت.. مابدي أسمع همسة.. ضبي كل شي من قدامك وخلي بس قلم أزرق قطعي الصوت يا حيوانة
ومرت علينا لتضع أمام كل طالبة ورقة طلب انتساب عضوية لشبيبة حزب البعث العربي الاشتراكي.
كانت امرأة فظة ذات أسلوب فج ترتدي جاكيت برتقالي، اللون الذي أكرهه منذ نعومة أظافري، وتخرج نصف غرتها المصبوغة بالأصفر من الإيشارب، تضع حمرة فاقعة اللون وتنتعل حذاءً موديله أقرب للرجالي، كان فمها لايخلو من العلكة، التي لم تكن تعيقها يوماً عن الصراخ على الطالبات وشتمهن،
بعد انتهائها من توزيع الأوراق علينا، أمسكت نسخة منها ووقفت على السبورة وبدأت تقرأ وتدلي علينا ما يجب أن نفعله
هون بتكتبي أسمك .. قطعي الصوت،
وهون عندك السؤال الأول هل تريد الانتساب لشبيبة حزب البعث العربي الاشتراكي في عندك خيارين نعم _لا بتحطي دائرة حول نعم
قاطعتها بإسلوب أقرب للاستهزاء وإذا مابدي انتسب
عندها قالت بتحطي نعم بالصرماية، فأجبتها يعني بحط حد نعم صرماية
انقذتني وقتها من العقوبة ضحكات صديقاتي وتعليقاتهن اللواتي قلبن الموقف للمزح والمرح.
كنت أريد أن أزعجها وأنتقم لصفعها لي في مرة أوقفتني فيها على باب المدرسة، وبدأت بالصراخ ياحيوانة ليش حاطة مكياج، أقسمت لها وقتها أني لا أضع المكياج، لكنني مريضة وارتفاع حراراتي ما تسبب باحمرار خدودي
فأجبرتني على غسل وجهي بالماء البارد في يوم مثلج رغم مرضي وسط وابل من الشتائم،
شعرت عندها بالكثير من الإهانة وقلت لها كردة فعل للكرامة أنا مو بحاجة لحط مكياج أنا ماني بشعة، لم أكمل جملتي حتى كانت قد صفعتني.. هي التي كانت تضع المكياج بطريقة مبالغ فيها ..
“صامدون” كتبت تلك الكلمة على الجدار الوحيد المتبقي من بيت جيراننا المقابل لنا
أعادتني تلك الكلمة لعبارات مشابهة كانت قد كتبت على جدران حينا في حلب، في عام 2011 ،وهو عام اندلاع الثورة السورية، ودخولي للجامعة كطالبة في كلية الأداب في جامعة حلب.
وتعود أمي لتأخذ دور البطولة في هذه الذكرى..
أمي التي كانت تعلم بفعل حدسها لكن دون امتلاكها دليل أنني أخرج في المظاهرات التي كانت تنطلق من حرم الجامعة في منتصف عام 2012، ولكنني أخفي عليها ذلك.
كانت كثيرة الخوف علي، تمسك قلبها بيدها منذ خروجي من البيت وحتى عودتي من الجامعة،
وكانت عدد مرات اتصالاتها بي تتجاوز العشرة اتصالات تنتهي معظمها ب”أنا كبرت وماعدت بنت صغيرة لاتخافي علي”.
2012 كان عاماً ذكرياته تحمل طعم النزوح البكر.. النزوح الأول، في منتصف هذا العام دخلت حلب الخط الساخن للحرب لأتذوق طعم النزوح للمرة الأولى ..
أذكر جيداً كلمات أبي لأمي أثناء توضيبها لحقيبة النزوح “لا تحطي بالشنتة إلا الضروري الضروري أسبوعين ورح نرجع”
على الرغم من كونه نزوح إلا أنه كان رحيماً مقارنةً بالنزوحات اللاحقة، يكفيني أنه في هذا النزوح إصطحبت جميع أحلامي معي والذي كان أولها أمل العودة إلى جامعتي وبيتنا في حلب، توجهنا نحو بيت جدي الذي أحبه في بلدتي أحسم بجبل الزاوية البيت الذي أقف على أطلاله الآن ..
2013 هو العام الذي لايمكن أن تشمل ذكرياته النسيان
في هذا العام أدركت جيداً أن خروجنا من حلب لم ولن يكون مسألة وقت، وأن باب الجامعة قد أغلق بوجهي للأبد، ليفتح أمامي باب الزواج ويضع بإصبعي خاتم الخطوبة.
أضحك كثيراً كلما تذكرت خلافاتي مع زوجي بفترة الخطوبة، والتي كانت تتمحور معظمها برغبته بتعجيل موعد الزواج ورغبتي بتأجيله لمابعد سقوط النظام
وبكيت خيبةً حين رأيت طفلي يردد وراء مظاهرة “الشعب يريد إسقاط النظام” كانت قد خرجت من شارعنا أثناء وقوفه على الشرفة.
أنهت سلسلة تلك الذكريات وأعادتني للحاضر يد زوجي من خلفي على كتفي وكلماته “تعالي شوفي شو لقيت”
التفتت لأجد لعبة “مصطفى” الذي لاينام دون معانقتها والذي لم يمل من السؤال عليها منذ فقدانها، حملت اللعبة وبرؤيتها كان قد تسلل لقلبي شيئاً من الأمل كسر يأس تلك الذكريات ومضيت في طريقي للسيارة، قبل أن أصعد ألقيت نظرة أخيرة للبيت.. وتسألت في نفسي ترى هل لازالت “طيري يا طيارة” هي الأغنية المفضلة لأمي في الوقت الذي لم تعد فيه الطائرة ورق وخيطان ولم تبقِ شرفة للبيت ولا سطح جيران.
بقلم/ آية السرحان